حديث لا ينتهى.. من المنيا

  •  

    بقلم : د. هبه صالح 

     

     

    رحلة بين محطات محافظة المنيا، يتداخل فيها ما بقى من تاريخ، مع نسج خيال (وضعت تحته خطأ)»

    لتوضيح أنه غير موجود بعد، لكن ليس بالصعب تحقيقه...

     

    بدأت الرحلة من "دير مواس" ومن داخل قصر الدكتور خليل أبو زيد، شهيد موقعة "العسل والدم"، وقائد

    أهالي المنيا عند خروجهم لقطع السكة الحديد على القطار الإنجليزي القادم من السودان وتوقيفهم إياه عام

    1919 لتنشب معركة بين الطرفين تدمر معها بلاليص عسل أحد التجار والتي تصادف وجودها بالمحطة

    آنذاك ليختلط العسل بدماء المصربين . أصيح القصر مزارا يحكي بالصور والنبذات المترجمة عن تاريخ 18

    مارس العيد السنوي للمنيا، وقد اختير تخليدا لذكرى تضحيات د. خليل أبو زيد وما يقرب من 80 منياوي

    مقاوم في سبيل الحرية من مسلمي ومسيحي أهل الصعيد. تنقلك غرف القصر بعدها لمشاهير المنيا من

    الثوار والمبدعين، منهم مثلا لا حصرا: د. طه حسين، الموسيقار عمار الشريعي، الفنانة سناء جميل، والشيخ

    القاياتي خطيب ثورة 1919 مخاطبا مصر من داخل الكنيسة المصرية وبجانبه صورة للقس سرجيوس شريكه

    فى الخطابة من منبر الأزهر على مدار ٥‏ يوما أثناء الثورة. ورغم أن القس سرجيوس جرجاوى المنشا، إلا أن

    من وراء خطة تنمية المنيا الشاملة، آثروا ألا يفرقا بين من رفعا قديما شعار اتحاد الهلال والصليب، وعرضوا

    للزوار صورة الشيخ القاياتي مزيلة بجملته الشهيرة في أحد خطبه من داخل الكنيسة المصربة "إذا أراد الاحتلال

    فصل اتحاد الهلال والصليب فلعنة الله على الاحتلال وليبقى الاتحاد"، وأسفل صورة القمص سرجيوس

    كتبت جملته الشديدة المصربة "إن كان بقاء الإنجليز لحماية الأقباط فليمت كل الأقباط ولتعش مصر

    حرة".... لتختتم رحلتك داخل القصر بخريطة تفاعلية لقرى ومراكز المنيا وأهم مزاراتها الفرعونية والدينية

    والفنية القديمة والمعاصرة، وأماكن بعض مصانعها الشهيرة المفتوحة للزبارة وطرق الوصول إليها المتنوعة

    بين الحقول أو في شوارعها المجددة أو في نيلها.

     

    تأخذنا المحطة التالية إلى ما يقرب من 3300 سنة في عمق التاريخ، ومن ملوي حيث تل العمارنة ""أخت

    أتون سابق"، مدينة كاملة على طول الساحل الشرقي للنيل بمسافة تقرب من 25 كيلو مترا، بناها إخناتون

    عاصمة جديدة لمصر لعبادة الإله آتون، مسحورا بموقعها الفريد بين النيل والجبال. وبفضل الآثار الباقية

    من المدينة، أمكن وضع تصوركامل لها متضمنا السور المحيط بها، وما يحتويه من بقايا لقصور ومقابر،

    وبمساعدة التطبيقات والنظارات ثلاثية الأبعاد أمكن أن تتجول في المدينة لترى وتسمع بلغات مختلفة، عن

    قصور الملك وأمه وزوجته نفرتيتي وبناته وكبار موظفيه، مسابح خاصة لبعض القصور، مخزن الأطعمة،

    مكتبة "بيت الحياة"، جسر يربط بين المدينة وقصر الملك، ومكتب "مراسلات الفرعون" لأرشفة مراسلات

    مصر مع ولاياتها الداخلية ومع الدول الأجنبية. ثم انتقلنا لمتحف ملوى، لنتفقد قطع أثرية للحقب الفرعونية

    واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، والتي تم استخراجها من الأشمونين وتل العمارنة وتونة الجبل،

    صالات تعليمية ومعمل للترميم، وأنشطة للأطفال عن مهنة التنقيب والترميم والرسم والنحت في مبادرة

    من الدولة لخلق جيل جديد من رواد البحث العلمى في تاريخهم. ومساحة أخرى تعرض للزوار نسخ من

    رسائل تل العمارنة التي اكتشفت في شكل ألواح من الطمى عام 1887 م وكتيبات تتضمن مقتطفات من

    الرسائل مصحوية بشرح مبسط لأساسيات اللغة الأكادية المستخدمة قديما في بلاد ما بين النهرين وكذلك

    أبجديات وأساسيات الهيروغليفية، حيث بقوم الزوار بالتعرف عليها. وباستخدام التطبيقات الذكية، التي

    تمزج بين صورة الزائر وصور الأقرب إليه شبها من قدماء المصربين، مطبوع معها أحد قيم ونصايح أجدادنا

    المرسومة على جدران المعابد مذيلة بتوقيع من "مصر فجر الإنسانية.. إلى " اسم الزائر بالفرعونية واللغة

    التي يختارها.

     

    وفي رحلة نيلية قصيرة، عبورا للبر الغربي، حيث تونة الجبل غرب مدينة ملوي، وفي فندق العائلة

    المقدسة، صاحب الإطلالة الخلابة التي تجمع بين زرقة النيل، وخضرة الحقول محتضنا صفرة الجبل،

    استراحة قصيرة لالتقاط الأنفاس قبل التوجه لزيارة دير جبل الطير أحد أشهر محطات رحلة العائلة

    المقدسة في مصر. سمي بجبل الطير بسبب طائر "البوقيرس" الذي كان يجتمع فيه، وأطلق عليه أيضا

    جبل الكف حيث يذكر التقليد القبطي أن العائلة المقدسة كادت أن تسقط عليهم صخرة كبيرة من الجبل

    فمد السيد المسيح يده ومنع الصخرة من السقوط فامتنعت وانطبعت كفه على الصخر.

     

    تأبي المنيا أن تتركك فلا زالت في جعبنها الكثير من المحطات، تطلب الأمر بعض الراحة في ساحة خصصت

    للسائحين بجانب استراحة د. طه حسين عميد كلية الآداب آنذاك وأحد زائري المنيا في شتاءها على هامش

    متابعته ودعمه لأبحاث الدكتور سامي جبرة في حفريات المنطقة. يقول البعض أنه تم تصوير فيلم "دعاء

    الكروان" بهذه الاستراحة، وهو مأخوذ من رواية للدكتور طه حسين سطرت بداياتها في هذه الاستراحة

    بالفعل، ولكن وبمقارنة سريعة بين مشاهد المنزل بالفيلم وصور الاستراحة، أجدني أكثر ميلا إلى رواية أخرى

    تشير إلى تصوير الفيلم بفيلا بالفيوم، تلك الرواية التي ألهمته إياها شهيدة الحب "ايزادورا" والتي يحمل قبرها

    رقم 1 في البيوت الجنائزية بتونة الجبل والتي تدعوك أيضا لزيارتها. ايزادورا فتاة اغريقية، عاشت فى مصر مع

    أبيها حاكم الإقليم. أحبت "حابى" الضابط المصري وأحد قوات الحراسة، فقوبل حبها بالرفض من أبيها،

    لتستحيل الحياة في عينها وتنهيها بإلقاء نفسها في النيل، ليرثاها أبوها بكلمات لازالت على قبرها في تونة

    الجبل. يمتد الخيال ليشمل تحوبل استراحة طه حسين لاستراحة للزوار، مع مجموعة من الصور التي

    تستعرض زباراته وزيارة الأدباء للمنطقة، بخلفية موسيقية تمزج بين تيمة موسيقى "دعاء الكروان" لآندريا

    رايدر اليوناني المصري مؤلفها الموسيقى يصحبها مقتطفات من الفيلم، ولا يرى الخيال مانعا من تداخلها مع

    عزف حي لأحد الفرق الشابة المنياوية، لتتنوع مصادر الاستمتاع للزوار، وتخفف عليه دسامة تاريخ لا يمكن

    استيعابه في زبارة قصيرة فتغريه بالرجوع لمفاجآت محطات أخرى.

     

    وإلى عصر الدولة الوسطى، حيث أبوقرقاص شمال وعلى شرق النيل، حيث منطقة "بنى حسن الشروق"

    والتي جاء اسمها نسبة إلى وجودها شرق النيل ونسبة إلى عرب بنى حسن الذين اتخذوها مسكنا لهم. وجدنا

    عدد من وسائل التنقل للتحرك بين الغيطان الخضراء، ما بين العربات الصغيرة والعجل الثنائي والثلاثي كلها

    معاد تجديدها بصور جذابة تنقل قصصا عن المكان، أغلبها صمم وصنع صديقا للبيئة وبأيدي مهندسي

    مصر من شكات التصميم والتصنيع ممن يذخر بهم السوق المصرى ويذخرون بآلاف من شباب معهد

    تكنولوجيا المعلومات وشباب مصر، حملت معها توقيعا يدعو الزوار لرحلة مختلفة "تصميم وتصنيع أحفاد

    الفراعنة... زوروا شركتنا في القربة الذكية. الإسكندرية. التجمع...أسيوط"

    صعدنا ب خضرة عدها الجبل متجهين إلى مقابر بنى حسن الشروق، والتي تحتوي على 39 مقبرة وجبانة

    كبرى للمواطنين والأتباع محفورة داخل الجبل، فتح للجمهور بعضها، متضمنا لوحات جدارية تحكى عن

    الحياة اليومية في الزراعة والتجارة والصناعة والحروب. وأيضا ما يقرب من 220 حركة رياضية نراها في

    دورات الألعاب الأوليمبية لعصرنا، من وثب عالي وفروسية ورقص إيقاعي وسباحة، وصيد وتجديف

    وغيرها. وعلى بعد 3 كيلومتر جنوب بنى حسن، نجد آثار "اسطبل عنتر" والتي تضم آثارا من عصور الدولة

    القديمة والوسطى والحديئة مرورا بالعصرين اليوناني والروماني، وبقايا كنيسة ترجع إلى العصر القبطي،

    ومعبد منحوت في الصخر للربة باخت التي كان يقدسها المصريون في صورة قطة برية حيث يوجد جبانة

    القطط البرية، ومعبد لحتشبسوت وكهف يحمل اسم الإسكندر الثاني وهو ابن الإسكندر الأكبر ودوكسانا،

    سألت عن سبب تسمية تلك المنطقة بمنطقة آثار إسطبل عنتر، فكانت رواية تشير الى «عنتر بن شداد»

    ورواية أخرى تنسبها إلى أعرابي اسمه عنتر، قدم إلى المنيا وأقام فيها بعض الوقت وأقام لخيوله اسطبلا

    فجاء الاسم. ثم قفز الخيال ليرى أمامه وبعد عناء رحلة الصعود والنزول استراحة مفتوحة بين الحقول يتم

    بها مسابقة سنوية لأوليبمياد معاصرة تجمع رومان واغريق وفراعنة العصر، بتصرف جديد يمزج بين

    الماضي والحاضر، ومساحة مفتوحة بلعب فيها الزوار ويتعرفون على تطور ألعاب عديدة، فنرى لعبة

    "الحوكشا"" على جدران المعابد، ونسختها المعاصرة الشبيهة ب "الهوى" ونرى لعبة "سنت" وقواعدها

    حركات العبور من مراحلها ونسختها الالكترونية التي أنتجها شباب مصر من خريجى معهد تكنولوجيا

    المعلومات. ومركز رياضي مفتوح يمزج بين السياحة التاريخية والسياحة الرباضية، مع نماذج صغيرة متاحة

    للبيع وعليها أكواد لنسخها الالكترونية يقبل عليها الزوار هدايا تذكارية، صممت وصنعت وعرضت بأيدى

    شباب مصر بتصرف مستوحى من تاريخهم٠‏

    ولمحبي المتاحف والفنون، ومن داخل مدينة المنيا. عدد من المحطات تضم المتحف الأتوني أمام النيل

    ومتحف الفن الحديث بجامعة المنيا ومتحف حسن الشرق بزاوية سلطان. يستمر الخيال “الممكن” ليرى

    المتحف الأتوني وقد تم افتتاحه بعد 20 عاما من بدء أعمال إنشاءه، والذي يعد أحد أضخم المتاحف في

    مصر والمقام على مساحة 25 فدان. يجمع قاعات مختلفة تمثل العصور المصرية القديمة، ومدرسة للترميم،

    ومنطقة للعروض المفتوحة، ومعرض لبيع الكتب والهدايا، ومعرض لأعمال شباب المنيا المبدع في الفن

    التشكيلي والتصوير والنحت، على خلفية موسيقية متناغمة مع أرض التوحيد تجمع بين إعادة صباغة

    لموسيقى الحضرة وخلفيات حلقات الذكر الإلهي.

     

    ثم محطة متحف "حسن الشرق"، ابن المنيا والذي بدأ الرسم على ورق اللحم أثناء عمله في دكان جزارة أبيه

    لعدم وجود مكتبة بقريته، فاستعان بالألوان الطبيعية من أحمر البنجر وصفار الكركم وبنيات العرقسوس

    معبرا في لوحاته عن قصص موالد الحسين والسيدة نفيسة والرفاعي، لتكتشفه إحدى فنانات ألمانيا، وتبدأ

    معارضه في التجول بأوروبا، ليتم منحه مفتاح مدينة نيولابك الألمانية عن مجموعة أعماله الفنية. ويجعل

    من منزله بزاوية سلطان متحفا لتوثيق جزء من تراث مصر يحيا به بعد وفاته عام ٠2021‏

     

    ومن زاوية سلطان أيضا، يبدو أن الخيال نفسه لم يستوعب كثرة ما تخفيه المنيا من كنوز، فآثر انتقاله

    افتراضيا ليزور مقابر زاوية سلطان والتي وصفها شامبليون وتحدث عن معماريتها. فهي أمواج من القباب الي

    تطل على نهر النيل للموق من أهالى ما يقرب من 29 قرية من قرى المنيا. فمن بقايا هرم حبنو المدرج الذي

    يعيدنا 5000 سنة إلى عصر الأسرة الثالثة وهو نفس زمن بناء هرم زوسر المدرج، ومقبرة نفر سخرو كاتب

    الملك- المشرف على صوامع مصر العليا، إلى مقبرة محمد باشا سلطان أول رئيس مجلس نيابي في مصر وهي

    على الطراز الإسلامي ومقبرة ابنته هدى شعراوي، وضريحا للإمام القرطي صاحب أحد أشهر التفاسير القرآنية

    "الجامع لأحكام القرآن" والذى اختار المنيا بعد سقوط الأندلس ليستقر بها حتى وفاته، ناهيا العرض بنماذج

    من أقوال الامام مترجما باللغات المختلفة ودال على سماحة وإبداع الإسلام.

     

    وامتد العرض لينتقل افتراضيا أيضا إلى بنى مزار شمال المنيا حيث "البقيع الثاني" في قرية "بهنسا" والتي

    تضم مقابر وأضرحة لعدد كبير من الصحابة والتابعين الذين دخلوا مصر عقب الفتح الإسلاي عام 21

    هجربة. مشى على أرض بهنسا عشرة آلاف عين رأت الني صلى اله عليه وسلم وسبعون بدربا ممن حضروا

    غزوة يدر، ودفن بأرضها الكثير مما جعل العديد من العلماء يخلع نعليه عند الزبارة كما فعل الشيخ عبد

    الحليم محمود عند زبارته للمدينة، قائلا لمن سأله عن السبب "كيف تطأ قدمي مقامات صحابة الرسول

    بالحذاء".

    ثم ننتقل الى متحف الفن الحديث داخل جامعة المنيا متوجا رحلة الفنون الحديثة والتشكيلية والنحتية،

    فاتحا أبوابه للجماهير صباحا ومساءا، عارضا أعمال شباب المنيا المبدعة وطلبة كلياتها المختلفة من نحت

    ورسم وتصوير وفن تشكيلي، مغتنمين فرصة وجود الزوار لتسويق منتجاتهم ومنتجات أهل المنيا الغذائية

    والعطربة التي تصدر للخارج. ولا أرى الخيال جامحا إذا ما توجنا الرحلة بسلسلة مطاعم مفتوحة للزوار

    يتركهم لغذاء آخر ينضم الى غذاء العقل والروح بمعرض آخر مفتوح للأطعمة المصرية القديمة والحديثة.

    المعرض الغذائي مقام على كورنيش المنيا، أحد أفضل الاطلالات النيلية، تصميما وجمالا وتوظيفا لدوره

    تنفس فسيح يخدم أهالى المنيا وسائحيها.

    جلست أنا وفريق عمل ١٢١‏ في مبنى الإبداع بالمنيا، نناقش المركز الثاني الذي حققه الفرع على مستوى أفرع

    المعهد في محافظات مصر هذا العام من حيث فرص عمل شباب مصر المستفيدين من منحه التدريبية

    بالمعهد. استعرضنا أمام معالى وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ورئيس الجامعة ومحافظ المنيا

    قصص العديد منهم. حقيقة وليست خيالا، استثمار لحاضر ومستقبل يليق بتاريخ عريق ويضع علينا

    مسؤولية نحو رفع سقف المستهدف للوصول للمركز الأول العام المقبل وبنسبة خلق فرص عمل مبدعة

    100. تحية شكر وتقدير لزميلى مهندس أحمد علاء، الإسكندراني المولد والمنياوي الهوى، وفريق عمل

    المعهد بالمنيا من شباب وشابات شغوفة بما تعمل، يرونه ويعتقدون في أنه رسالة ومسئولية وواجب.

     

     

    حمّل تطبيق Alamrakamy| عالم رقمي الآن