بقلم : د . غادة عامر
في الأول من سبتمبر عام 2017 ، خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجموعة من الطلاب الروس في جميع أنحاء البلاد في أول يوم لهم في المدرسة قالا: "الذكاء الاصطناعي هو المستقبل، ليس فقط لروسيا، ولكن للبشرية جمعاء". "ومن يصبح القائد في هذا المجال سيصبح حاكم العالم أجمع". وفي مقال نشر في الواشنطن بوست في سبتمبر 2018 ، كتب نيكولاس بيرغرون وناثان غارديلز أن "الذكاء الاصطناعي أصبح المورد الأقوى الذي سيحدد مصير الأمم في الأزمنة المقبلة". وذكرت صحيفة "جلوبال تايمز" الصينية أنه في عام 2017 وضع مجلس الدولة الصيني خططا طموحة لتصبح الصين الدولة الرائدة عالميا في مجال الذكاء الاصطناعي، وحسب الخطة الموضوعة ستصل استثمارات الصين في الذكاء الاصطناعي إلى 150 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030. وتوقعت مؤسسة الاستشارات "ماكينزي" في تقرير أصدر في أواخر نوفمبر من العام الماضي، أن تحل الروبوتات والذكاء الاصطناعي محل 800 مليون عامل بحلول عام 2030، أي خُمس مجموع القوى العاملة في العالم. هذه العبارات لمن يعيها تعني الكثير وليس من الحكمة تجاهلها حتى لو كان القصد منها التنمية والتطوير في المجال الاقتصادي، فهو بتأكيد لن يجعل الذكاء الاصطناعي الصحة والتعليم والأعلام والتصنيع والنقل والتجارة أكثر كفاءة ، وسيحسن جودة المحاصيل ، ويفتح ثروة من الفرص الجديدة للتقدم التكنولوجي، وسيعيد تشكيل أسواق العمل فقط، لكنه سوف يغير التكتيكات العسكرية، بل سيغير استراتيجيات الأمن القومي على المدى الطويل. فالذكاء الاصطناعي ليس وسيلة عسكرية بسيطة أو سلاح تكتيكي. أنما هو تقنية قد تغيير اللعبة في السياسة الدولية في المستقبل بشكل كبير. فهو الأن يفرض على كل الحكومات إعادة التفكير بشكل أساسي في مقاربات الأمن القومي وبنية الجيوش الحديثة. لأنه في العقود المقبلة ستكون الدول القادرة على إنتاج المعرفة وتسخير ثقافة الابتكار الوطني الذكي في وضع جيد للنمو الاقتصادي وتحسين أمنها القومي. لذلك نجد أنه تم استثمار قدر هائل من الموارد البشرية والمالية في الدول الكبرى والصاعدة في دراسات التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي.
لقد بدأ يرتبط الذكاء الاصطناعي بالجغرافيا السياسية، فقد غير وسوف يغير سياسات القوة العالمية، لنأخذ مثالاً على العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. من وجهة النظر الجيوسياسية ، لم تكن الولايات المتحدة والصين خصمين جيوسياسيين، فتاريخ الصين هو تاريخ التنافس بين القوى البرية، ولم تتعرض الصين لتحديات القوى البحرية إلا في الآونة الأخير وكانت قوتها أمام القوي الأمريكية ضعيفة. أما الأن فيمكن للصين أن تتغلب على الهيمنة الأمريكية في غرب المحيط الهادئ بتكنولوجيا الذكاء / تكنولوجيا البيانات الضخمة. وبعد هدوء العلاقات الصينية اليابانية أصبحت الصين تمثل تهديدًا حاضرًا ووجوديًا لطوكيو منذ عام 2010بسبب ما قامت به الصين من ثورة الذكاء الاصطناعي. فالصين تراهن على الذكاء الاصطناعي لأن قادتها السياسيين ورجال الأعمال قد حددوه بشكل صحيح كعنصر حاسم في استمرار النمو الاقتصادي الصيني. ويتمثل العنصر الأكثر أهمية في تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني في تحقيق تقدم كبير في قدرة الحزب الشيوعي الصيني على مراقبة وتحديد أماكن اعتقال كل من يعتبره النظام عدائيًا أو حتى مزعج للحزب. فعن طريق الذكاء الاصطناعي عززت بكين نظام الرقابة الاجتماعية السلطوية وأصبح لديها القدرة على اختراق خصوصية المواطنين البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة بكل بسهولة. ويقول أحد رجال الحزب أنه بعد الانتهاء من نظام الأمن العام، سيكون الهدف التالي للصين هو كوريا الجنوبية ، وبالطبع اليابان. ولقد استخدمت الولايات المتحدة ومن ساهم معها في إشعال الثورات في المنطقة العربية الذكاء الاصطناعي في مجال عديدة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي، وما قامت به خمس دول بقيادة الولايات المتحدة من تعقب الأعداء والحلفاء على حد سواء داخل وخارج دولهم عن طريق تتبع الكلمات الرئيسية في كل أنواع التواصل من الهاتف إلى المحمول إلى الإيميلات إلى أي نوع من أنواع الاتصالات، فيما عرف بمشروع العيون الخمسة (إشلون)
وإذا غير الذكاء الاصطناعي استراتيجيات الأمن القومي ، فهذا يعني أن أسلحة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تحل محل الأسلحة النووية في المستقبل باعتبارها "سلاحاً استراتيجياً" يمكنه القضاء على إرادة العدو. وإذا قضت أسلحة الذكاء الاصطناعي على إرادة العدو، فهذا يعني أن أسلحة الذكاء الاصطناعي يمكنها تحقيق "الدمار الشامل" دون استخدام الأسلحة النووية. ولكي تمنع أي دولة هذا من الحدوث لها ، يجب أن تكون قادرة على نشر أسلحة الذكاء المضادة للإنتاج الاصطناعي لتعويض القدرة العسكرية للذكاء العدواني. لذلك فالذكاء الاصطناعي قد تؤدي تطبيقاته العسكرية إلى تغيير جذري في ميزان الرعب الذي خلقة التسليح النووي سابقا. وعلى الرغم من أن التأثير الكامل المستقبلي للذكاء الاصطناعي من المستحيل التنبؤ به، فإن هناك شيئًا واحدًا واضحًا: بينما نتحرك في منتصف القرن الحادي والعشرين ، سيتزايد تشابك مكانة الدول الجغرافية السياسية وقوتها في الذكاء الاصطناعي. و بالتالي من المؤكد أن القادة الواعين سوف يفكرون في امتلاك مثل هذه القدرة (الذكاء الاصطناعي) للحفاظ على أمن واستقرار أوطانهم و لتحقيق تطلعاتهم الجيوسياسية. فهل سنكون منهم؟