بقلم : د/ غادة عامر
لقد سبق الرئيس المصري السابق أنور السادات عصره عندما أدرك أن قوة الجيوش والدول لا تكمن فقط فيما تمتلكه من أسلحه و أموال، وانما بقدراتها علي استخدام وتوجيه التكنولوجيا الحديثة لدعم الابتكار لخدمة الاداء الوطني والعسكري، و أننا نعيش فى عالم لا تتحدد فيه مقاييس الكفاءة والقوة والثراء بالمعايير السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب وإنما دخل معيار جديد وهو معيار العلم والمعرفة و البحث والابتكار، وان الاستعداد التكنولوجى اصبح مكافئا للاستعداد القتالى، وان البحث العلمى والتطوير التكنولوجى لابد أن يحظى بالتخطيط والتدريب والتقييم بنفس القدر الذى يناله الشاط العسكرى المباشر، فأيقن ان النصر علي العدو قد رهن باستراتيجية جديدة للتعليم والبحث العلمى تتوافر لها آلياتها وأدواتها فى شكل قاعدة تكنولوجية لا تقتصر على المعدات وإنما تنطلق من القدرة على إعادة بعث غريزة التفكير والبحث و الابتكار لدى المواطن قبل الجندي!
و بالتالي لم يكن الجيش الذى واجه النكسة العسكرية فى67 هو نفسه الذى انتصر فى 73، حيث اعيد بناؤه فى اطار فكر جديد ومبتكر،قائم علي استخدام كل التكنولوجيا الحديثة والموراد المتاحة والاهم العقول المصريه المبتكره، فى منظومة منسجمة لتحقيق النصر. لقد كانت الخطة العملية العسكرية لعبور القناة تتضمن أبحاث عديدة في علوم كثيرة منها علم الفلك والظواهر الطبيعية (لدراسة حالة الجو و المد والجزر وحركة الرمال والقمر فوق القناة وسيناء طوال العام) لتحديد أنسب الأوقات للهجوم والقتال و كذلك العلوم الجولوجية و العلوم الهندسية و التكنولوجية الحديثة.
لقد مارست القيادة العسكرية اثناء الاعداد للحرب فكرا تجريبيا خلاقا، يبحث عن الابتكار المصري من خلال العديد من التجارب، و اعتمدت ليس فقط علي جهد العسكريين المصريين بل على فكرهم ومعارفهم وعلومهم وخبراتهم بالاضافة الي جهد العشرات من عمالقة المهندسين في كل الجامعات المصرية. و من اعظم الابتكارات التي تم استخدامها في حرب اكتوبر، لحل أحد المعضلات الكبرى فى عملية إقتحام خط بارليف، هو كيفية فتح ثغرات فى الرمال التى لا تؤثر فيها الصواريخ، لعبور ناقلات الجنود والمدرعات والدبابات إلى سيناء. وقد جاءت الفكره العبقرية المصرية من اللواء أركان حرب المهندس باقي زكي يوسف، والذى أحضر التفاصيل الهندسية لخط بارليف عن طريق رفعت الجمال "الشهير برأفت الهجان"، و كانت الفكره عبارة عن استخدام طلمبات السد العالي التوربينية لهدم الساتر الترابي لفتح ثغرات فيه لإرساء الكباري. وقد عقد إجتماعات مشتركة بينه وبين المهندسين العسكريين وممثلي القيادة العامة وأساتذة كليات الهندسة في الجامعات المصرية ، ليناقشوا الفكره و يطورا أبحاث دولية بهدف إيجاد معادلة جديدة تجيب عن السؤال الاتي: كل متر مكعب من التربة يحتاج كم من المياه لهدمة ، وكم يستغرق من الوقت لتحقيق ذلك؟ فأقاموا ساتراً مماثلاً علي مانع مائي يماثل مانع قناة السويس ، بجوار القناطر، وأجروا 322 تجربة عملية لتحقق من نجاح الفكره. و بالرغم من أنه كانت كل الابحاث العسكرية الدولية و حتي الخبراء الامريكان و الروس يؤكدون وحتي ما قبل 6 أكتوبر بأيام قليلة ،أن إقتحام الساتر الترابي لقناة السويس وإقامة كباري للعبورلابد أن تستغرق 48 ساعة لدي قوات تتمتع بأقصي كفاءة عسكرية، لكن العبقرية الهندسية المصرية إختصرت هذا الزمن إلي 5 ساعات فقط !!!!
وكانت فكرة الضابط إبراهيم محمد شكيب، بأن تقوم ضفادع بشرية بسد فتحات خزانات الوقود الموجودة على عمق 40 سنتيمتر من سطح القناة، بأسمنت لا يتحلل بالماء او بعض اللدائن الأخرى، فكرة عبقرية غير مكلفة ولها تأثير كبير، و قد نفذت الفكره وساهمت في تحقيق الانتصار.و ليس هذا فقط فقد أبتكر المهندسون المصريون انواعاً من الكباري صناعة مصرية، تحملها لوريات نصر، و ابتكروا ستائرعائمة لحماية الكباري من الألغام، وقاموا بإبتكار وصناعة مادة الفلين لكي تحتفظ الكباري بطفوها فوق سطح الماء، رغم ما يصيبها من قنابل طائرات العدو ومدفعياته، وإستخدموا انواعا من الصلب تحتمل الإجهاد العالي لم يسبق لاحدث الجيوش العالمية حتي اليوم إستخدامها، و كذلك قاموا بصناعة وصلات للمزج بين انواع الكباري المختلفة، لقد ظهرالتصنيع المصري العالي الجوده لمعدات العبور من القوارب ثم الكباري فالخراطيم اللازمة لاقامة الكباري، فمهمات المعاونة للقوات المترجلة، والمقطورات التي يدفها الجنود ،حتي أنهم صنعوا سترات خاصة يرتديها المقاتلون أثناء العبور، لقد بلغت نسبة الصناعة المحلية في هذة الملحمه العظيمة اكثر من 60 %، وكانت مفاجأة علي المستوي العسكري العالمي. و من الابتكارات العبقرية التي استخدمت وحيرت اسرائيل وابهرت العالم، الشفرة التي استخدمها قادة الجيش المصري في حرب أكتوبر لإبلاغ التعليمات والأوامر للضباط والجنود في مواقع العمليات، حيث استخدموا لغة جديدة وغير موجودة في أي قاموس من قواميس العالم، فقد تم استخدام اللغة النوبية كشفرة، لانها لغة يتحدث بها النوبيون لكنها لا تكتب. و كان صاحب الفكره العبقرية البطل المجند أحمد ادريس. لقد احتوت فصول الحرب على مشاهد عظيمة من الاداء العسكرى المبدع و المبتكر شكلت به اطارا جديدا للحرب التقليدية الحديثة ويرجع الفضل للعبقرية المصرية فى انها استوعبت خلال سنوات قليلة تكنولوجيا العصر ووظفتها فى خطة عسكرية خلاقة حققت النصر العظيم على العدو .و الذي دفع جولدا مائير- رئيسة وزراء اسرائيل- لان ترسل الى الولايات المتحدة في يوم 9 اكتوبر 73 رسالة تقول فيها نصا" أنقذوا اسرائيل".
وفى النهاية مازالت حرب اكتوبرالملحمة الوطنية التي سجلها الشعب المصري بعبقرية بعدما اعتنق مبدأ دعم البحث العلمي و استخدام الابتكار المصري وتجديد الفكر والاداء العسكرى، شاهدا علي قدرة شعوبنا الابتكارية اللا محدوده مهما حاول البعض زرع غير ذلك في عقولنا!