:بقلمد. عادل اللقانى
خبير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات alakany@gmail.com
"يشهد العالم صراعا متزايدا بين الولايات المتحدة الامريكية والصين حول مستقبل شبكة الانترنت حيث يسعى كل طرف الى فرض رؤيته وخططه الخاصة للسيطرة على هذه الشبكة الحيوية بل ان هذا الصراع يعتبره كثير من الخبراء والمحللين أنه واحدا من ابرز التحديات الجيوسياسية والتكنولوجية فى العقدين الاخرين وقد يترك تداعيات كبيرة على مستوى العالم وفى اعادة تشكيل وكيفية تفاعل المستخدمين مع الشبكة الدولية"
فى مجال البنى التحتية للانترنت تعتبر الدولتان من أكبر القوى الاقتصادية التى تسعى للهيمنة على هذه البنية العالمية مما يتيح السيطرة على تدفق المعلومات ، وفى حين تهيمن الولايات المتحدة على شركات الانترنت الكبرى مثل " جوجل " و "امازون" و"مايكروسوفت" و"آبل" و"ميتا" التى تمتلك مراكز البيانات الضخمة والخدمات السحابية ومحركات البحث العالمية وقدرة هائلة على التحكم فى الخدمات الرقمية للمستخدمين حول العالم ، فانه فى المقابل تجد ان الصين تعمل بقوة على توسيع خدماتها المحلية من خلال شركات "على بابا" و"بايدو" و"تينست" وتقليص اعتمادها على التقنيات الغربية والسيطرة على شبكة الانترنت المحلية بشكل صارم. وتعمل الصين على بناء مراكز بيانات وتحسين التكنولوجيات المحلية والجديدة التى تزيد من تأثيرها على الانترنت، وتطوير مشاريع مثل "الحزام والطريق الرقمى" لنشر بنى تحتية تكنولوجية بدول اخرى مما يعزز نفوذها و تأثيرها فى الاقتصاد والسياسات لهذه البلدان. كما تسعى الدولتان للاستثماربشكل كبير فى تقنيات الجيل التالى لشبكات المحمول مما يعزز قدرتهما على فرض سيطرتهما على الانترنت عبر تطبيقات جديدة ومتقدمة .
فى مجال حوكمة الانترنت نجد أنه مستقبلا قد تتغير طريقة ادارة الانترنت نفسها بفعل هذا الصراع ، فاليوم يتم تنظيم الانترنت من خلال منظمةICANN المسؤولة عن توزيع اسماء النطاقات عالميا لكن هناك دعوات لتطوير اسأليب الحوكمة بمشاركة أكبر للدول والشركات والمجتمع المدنى فى الادارة ، وتشجع الولايات المتحدة هذا التوجه وتعتمد على مايعرف بـ "الانترنت المفتوح" و"حرية الانترنت " وتسهيل وصول المستخدمين الى الانترنت . بينما نجد ان الصين تتوجه الى "الانترنت المغلق" وتمارس رقابة شديدة من خلال " جدار الحماية العظيم" (Great Firewall) لمنع الوصول الى بعض المواقع العالمية والحد من تدفق المعلومات القادمة اليها وفرض قيود على وصول المحتوى غير المرغوب فيه الذى تعتبره تهديدا للامن الوطنى. وهذا التباين فى النهج بين البلدين يعكس اختلافا جذريا فى المفهومين الثقافي والسياسي فيما يتعلق بادارة وحوكمة الانترنت بل قد تتخذ دول مثل روسيا والهند واوروبا نفس سياسات الصين فيما يعرف بانشاء "انترنتات اقليمية " وتقسيم شبكة الانترنت مستقبلا بين هذه الدول ،وقد تتبع هذا الدول نموذج "الفصل الرقمى" وفرض قوانيين صارمة على شركات الانترنت التى ترغب العمل داخل حدودها .
تعتبر منصات التواصل الاجتماعى مجالا خصبا جدا للتنافس بين الشركات الامريكية والصينية لما له من تاثير كبير على سيادة الانترنت ، فالولايات المتحدة تتفوق فى "الفيسبوك" و"الانستجرام" و"تويتر" وتستخدم هذه المنصات للتاثير على السياسات العالمية ونشر قيم الديموقراطية وتقوية العلاقات الدولية ،وهى تراقب المنصات الصينية مثل "تيك توك "وتسعى الى حظرها بسبب المخاوف الامنية . اما الصين فهى رائدة فى منصات التواصل الاجتماعى التى تخضع لرقابة شديدة من الحكومة مثل "ويى شات " و" ويبو" والتى تنشر الرسائل الرسمية والمحتوى الذى يتماشى مع السياسات الحكومية .كما ان "التيك توك" يؤثر بشكل كبير على الراى العام فى الغرب.وتفرض الصين رقابة صارمة داخل حدودها لمنع الوصول الى المنصات الامريكية وتعتبرها جزءا من سياسة السيادة الرقمية لضمان السيطرة الكاملة على تدفق المعلومات .
وتشهد تقنيات الجيل القادم من الانترنت تنافسا بين الدولتين مثل"الجيل الخامس للمحمول" و "الحوسبة الكمية" ،و " انترنت الاشياء" ، و"العملات الرقمية"، و"الذكاء الاصطناعى". وهذا التنافس لايقتصر على التفوق التكنولوجى بل يتعدى الى الهيمنة الاقتصادية والنفوذ الجيوسياسى . وتسعى الولايات المتحدة الى تحدى هيمنة شركة "هاواوى" الصينية على شبكات المحمول وتطويرها مستقبليا من خلال دعم شركات امريكية مثل" كوالكوم "و"سيسكو" و"انتل" لتطوير تكنولوجيا الجيل الخامس معتبرة ان "هواوى" تمثل تهديدا أمنيا لها بسبب ارتباطها بالحكومة الصينية .كما تعمل الدولتان على استكشاف الجيل السادس للمحمول الاكثر تطورا فى توفير سرعات الانترنت الهائلة وتحسينات فى الاتصال بين الاجهزة ودعم تقنيات "الواقع الافتراضى"و"الواقع المعزز" .
وتستثمر الولايات المتحدة بشكل كبير فى تطوير "الحوسبة الكمية" من خلال شركات "جوجل" و"اى. بى. ام " و"مايكروسوفت" حيث تلعب هذه التكنولوجيا دورا محوريا فى الجيل التالى من الانترنت ، وفى المقابل نجد ان الصين رائدة فى هذا المجال ونجحت فى ارسال البيانات عبر الانترنت باستخدام الكم لمسافات طويلة ، وتعد الولايات المتحدة مسثمرا كبيرا من خلال شركاتها "جوجل" و"امازون" و"مايكروسوفت" فى تقنيات الذكاء الاصطناعى ودعم تطبيقات الانترنت القادمة مثل "السيارات ذاتية القيادة "و"المدن الذكية" ، بينما تعتبر الصين "الذكاء الاصطناعى" جزءا اساسيا من تطوير بنيتها التحتية الرقمية وتسعى لدمجه مع تقنية "انترنت الاشياء" لتقديم خدمات متقدمة فى مجالات النقل والرعاية الصحية. وتستحوذ الولايات المتحدة على شركات "امازون ويب سيرفس" و"مايكروسوفت ازور" و"جوجل كلاود" والتى لها حصة كبيرة من السوق العالمى للـ " التخزين السحابى" بهدف تعزيز دورها فى الاقتصاد الرقمى العالمى ، اما الصين تطور بنيتها السحابية من خلال شركات "على بابا كلاود" و"تينسنت كلاود" وتسعى لتحقيق استقلال رقمى وتقليل الاعتماد عللى الحلول الرقمية الامريكية.
وفى مجال الامن السيبرانى والحروب الالكترونية تتنافس الدولتان فى تطوير تقنيات امان متقدمة لحماية البيانات والشبكات وقد تكون السيادة على الانترنت لاى من الدولتين مستقبلا مرتبطة بدرجة الامان التى تستطيع توفيرها على شبكة الانترنت.وتنظر الولايات المتحدة الى "الامن السيبرانى" كجزء من استراتيجيتها الدفاعية الاوسع حيث انشات مايسمى بقيادة الامن السيبرانى ((cyber command وتفرض عقوبات على الدول التى تهدد أمنها السيبرانى وتطوير ادوات هجومية مثل "البرمجيات الخبيثة" وتعتبر الصين من ابرز الدول التى تتهمها امريكا بانها تقوم بانشطة اختراق سيبرانى تهدف الى سرقة الملكية الفكرية والتكنولوجيا المتقدمة منها . فى المقابل تعتبر الصين ان الولايات المتحدة تقوم بانشطة مشابهة فى سياق الحرب المعلوماتية وتتهمها بمحاولات اختراق شبكات حكومية وتجارية صينية ، ولذلك فهى تعمل على بناء قدرة هجومية ودفاعية متقدمة. وتتنافس الدولتان فى تطوير القدرات الهجومية التى تستهدف الشركات الكبرى فى كل من البلدين ، وكذلك البني التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء والمياه والانظمة المالية والاتصالات . ومن المؤكد ان هذا الصراع سيؤدى فى المستقبل الى تغييرات عميقة فى كيفية ادارة وتنظيم الانترنت.
وياتى مجال اخر للصراع وهو الدفع الالكترونى والعملات المشفرة بهدف الهيمنة الرقمية على الانترنت والسيطرة على النظام المالى العالمى فتجد ان الولايات المتحدة هى الرائدة عالميا حيث تهيمن على شركات "باى بال" و"سترايب" ،كما تمتلك شركات مثل" جوجل بلاى" و"ابل بلاى" تكنولوجيا متقدمة فى المجال ، وتعتبر هذه المنصات جزءا من الهيمنة الاقتصادية الامريكية على الانترنت وقدرة كبيرة بالتحكم فى تدفق الاموال عبر الانترنت ، وفى المقابل تهيمن الصين على منصات اخرى مثل "وى شات باى" و "على باى " اللتان تحظيان بشعبية كبيرة داخل الصين ودول اسيوية ،وهى تمتلك قدرة على التحكم فى التجارة الرقمية داخل حدودها مما يعزز السيادة الرقمية والرقابة على الانشطة المالية عبر الانترنت . وفى حين تعتبر الولايات المتحدة اللاعب الرئيسى فى مجال العملات المشفرة حيث تبرز شركات مثل "بيتكوين" و"اثيريوم" و"كوينبيز" فى السوق الامريكى كما تعتبر امريكا مركزا للابتكار فى مجال العملات المشفرة وتقوم بتطوير" الدولار الرقمى" والذى يشكل تهديدا مباشرا للانظمة المالية الاخرى ، كما ان هناك توجه للرقابة على هذه العملات والحد من الانشطة غير المنظمة ومكافحة غسيل الاموال مما يعزز الهيمنة الامريكية على النظام المالى العالمى .فى حين ان الصين قامت بحظر عددا من العملات المشفرة الامريكية فى عام 2021 واغلقت منصات تداولها محليا ، وعملت من جهة اخرى لتكون من الرواد فى مجال العملات الرقمية المركزية حيث اطلقت "اليوان الرقمى " واستخدمته فى المعاملات الرقمية محليا لتحقيق السيادة الرقمية والغاء الحاجة الى العملات الاجنبية فى المعاملات المالية كما انها تسعى الى توسيع نطاق استخدامه عالميا .
فى الختام نجد انه سيكون من الصعب تحديد من ستحقق الغلبة والسيادة على شبكة الانترنت عالميا سواء الولايات المتحدة او الصين اذ ان كل منهما يسير فى اتجاهات مختلفة ، لكن كل طرف يملك نقاط قوة قد تتحدد معه ملامح المستقبل الرقمى والانترنت، وعلى المدى القصير قد تكون الولايات المتحدة فى وضع افضل بسبب تلك النقاط ولكن الصين قد تكون اقوى اذا ماتمكنت من فرض هيمنتها على السوق العالمى والمزيد من التحكم فى الانظمة الرقمية والانتشار عالميا .