بقلم: د.عادل اللقانى
خبير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
"في قلب الثورة الرقمية التي يشهدها العالم، تقف كبرى شركات التكنولوجيا والاتصالات مثل "مايكروسوفت"، "أمازون"، "جوجل"، و"أوراكل" و"انتل" وغيرها من الركائز الأساسية في تطوير المجتمعات البشرية. تقدم هذه الشركات حلولًا مبتكرة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والتعليم الرقمي، مما يسهم في تحسين جودة الحياة وتعزيز التنمية المستدامة وتقديم الحلول الذكية وبناء الجسور بين المجتمعات وتحقيق الرفاهية والتقدم المستدام. ولكن خلف هذه الصورة المضيئة يتكشف وجه قبيح آخر يشير إلى تورط بعض هذه الشركات في دعم عمليات عسكرية أبرزها في غزة مما يضع الإنسانية والأخلاقيات فى دائرة الشك والاتهام . هذا المقال يسلط الضوء على التناقض الأخلاقي العميق الذي يتجلى في دعم هذه الشركات من عمالقة التكنولوجيا لآلة الحرب الإسرائيلية ضد غزة، رغم ما تدّعيه من التزام بحقوق الإنسان والتنمية العالمية. وقد كشفت عن هذا التناقض وبشجاعة نادرة المبرمجة المغربية "أبتهال ابو السعد "الموظفة السابقة في مايكروسوفت التي فجّرت مفاجأة أخلاقية زلزلت أركان الشركة بدعمها حرب الابادة التى تقوم بها اسرائيل فى غزة "
الجانب المضىء لشركات التكنولوجيا
بداية إن النظر إلى الدور الإيجابي لهذه الشركات لا يمكن إنكاره ابدا فخلال العقدين الأخيرين لعبت شركات التكنولوجيا دورًا محوريًا في تطوير قطاعات عديدة حياتية للمجتمع الدولى ففى القطاع الصحي ومن خلال الذكاء الاصطناعي تم تشخيص الأمراض النادرة، والتنبؤ بالأوبئة ، وفى تطوير النظام التعليمي من خلال تقديم منصات تعلم مجانية، ووسائل تفاعلية للتلاميذ في الدول النامية .وفى دعم العدالة الاجتماعية من خلال إطلاق أدوات تسهّل الوصول إلى العدالة خصوصًا للفئات المهمشة والفقيرة ، وفى تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة من خلال دعم مبادرات مثل الحد من الفقر، والمساواة بين الجنسين، والطاقة النظيفة وسنطرح بعا من الامثلة الدالة على ذلك مؤخرا :
في القطاع الصحي :
· استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص: تقوم شركات مثل IBM ( Health Watson) و (Google Health) بتطوير أنظمة ذكية لتحليل الأشعة والاختبارات الطبية بدقة تفوق الخبراء أحيانًا، مما يساهم في الكشف المبكر عن السرطان والأمراض المزمنة.
· الاستشارات الطبية عن بعد : من خلال خدمات مثل Microsoft Teams وAmazon Web Services، أصبح بإمكان المرضى في المناطق النائية الحصول على استشارات طبية من أفضل الأطباء.
· تحليلات البيانات الصحية: شركات مثل Oracle و Palantir توفر أنظمة تساعد الحكومات على تحليل انتشار الأمراض والأوبئة (مثل كورونا) واتخاذ قرارات مبنية على البيانات.
في التعليم وتكافؤ الفرص :
· منصات التعلم عن بُعد: طورت جوجل (Google Classroom)، ومايكروسوفت (Microsoft Education) منصات مجانية تسهّل التعليم التفاعلي وتسمح بوصول ملايين الطلاب للمناهج التعليمية في مختلف اللغات.
· الذكاء الاصطناعي لمراعاة احتياجات الطلاب : تُستخدم خوارزميات AI لفهم مستوى كل طالب وتكييف المحتوى وفق احتياجاته.
· دعم التعليم في المناطق المهمشة: من خلال مبادرات عالمية، مثل مبادرة Internet.org من فيسبوك، وشراكات Amazon التعليمية مع اليونسكو، تم إدخال الإنترنت والمصادر الرقمية لمدارس لا تملك بنى تحتية تقليدية.
في تمكين الاقتصاد والمشروعات الصغيرة
· العمل عن بعد والتوظيف الدولي: تتيح المنصات مثل LinkedIn وUpwork الفرصة للملايين حول العالم للعمل دون الهجرة، مما يحسن الدخل ويخفف البطالة.
· خدمات سحابية للشركات الناشئة: تتيح شركات مثل AWS وGoogle Cloud وAzure للمشروعات الصغيرة الاستفادة من أدوات تقنية كانت حكرًا على الشركات الكبرى.
· دعم التحول الرقمي للمؤسسات الحكومية والخاصة: ساعدت شركات مثل SAP وOracle في رقمنة مؤسسات في الدول النامية، مما زاد من كفاءتها وسرّع الأداء الخدمي.
في الابتكار العلمي والتقدم التكنولوجي:
· محاكاة البيانات المعقدة: تقوم شركات مثل NVIDIA وIBM بتوفير بيئات حوسبة فائقة يستخدمها العلماء في تطوير أدوية، أو محاكاة تأثيرات تغير المناخ .
· التقنيات المساعدة لأصحاب الهمم: طورت "مايكروسوفت" و"آبل" أدوات مساعدة للمكفوفين، وضعاف السمع، وذوي الإعاقات الحركية لتمكينهم من التعليم والعمل.
في البيئة والمناخ:
· تحليل صور الأقمار الصناعية: تُستخدم أدوات من Google Earth Engine وMicrosoft AI for Earth في رصد التغيرات البيئية والتنبؤ بالكوارث.
· إدارة الطاقة والموارد بكفاءة: شركات مثل Tesla وAlphabet (X) تطور حلولًا للطاقة المتجددة، وإدارة مياه الري عبر الذكاء الاصطناعي.
في دعم المجتمعات المهمشة والعدالة الاجتماعية:
· مشاريع الشمول المالي: تقود شركات مثل PayPal وStripe الثورة في التمويل الرقمي، مما يمكّن النساء واللاجئين من إدارة أموالهم وتأسيس مشاريع صغيرة.
· مبادرات لدعم المرأة والمساواة: "آبل" و"فيسبوك " دعمتا آلاف البرامج التدريبية التي تستهدف النساء والمجتمعات المنسية.
فى الأزمات الإنسانية والطوارئ:
· تقديم المساعدة في الكوارث: من خلال استخدام Google Crisis Map أو Facebook Safety Check، يمكن تتبع أماكن اللاجئين والمناطق المتضررة، وتنسيق جهود الإغاثة.
لقد شكلت هذه الابتكارات جوهر الرؤية التي بنت عليها هذه الشركات سمعتها ورسالتها المعلنة. ويعتبر ما قدمته هذه الشركات خلال العقدين الماضيين من دعم للبشرية لا يمكن تجاهله، فقد أعادت تشكيل الحياة الإنسانية، وقلّصت الفجوة بين المجتمعات، وساهمت في تحسين حياة مليارات البشر.
الدور السلبي لشركات التكنولوجيا في دعم الاحتلال الإسرائيلي
لكن في الآونة الأخيرة بدأ يظهر جانب مظلم لهذه الشركات عندما تكون تقنياتها أداة لدعم القوات العسكرية أو الحكومات التي تُمارس العنف والاحتلال ضد الشعوب. ومن بين هذه الحالات، يتصدر دور شركات التكنولوجيا العالمية في دعم الجيش الإسرائيلي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .وسوف نستعرض فيما يلى الدور السلبي لشركات التكنولوجيا العالمية في دعم الجيش الإسرائيلي عبر عدة جوانب رئيسية
اولا - الدعم المباشر مع الجيش الإسرائيلي :
تُعتبر الشركات الكبرى مثل" مايكروسوفت "، "أمازون "، "جوجل"، و"إنتل " من الشركات التي قدمت الدعم بشكل مباشر أو غير مباشر للجيش الإسرائيلي عبر تزويده بالتقنيات الحديثة .
· تقنيات الحوسبة السحابية لتحليل البيانات
زودتا مايكروسوفت (Microsoft) و أمازون (AWS) الجيش الإسرائيلي بأنظمة الحوسبة السحابية المتقدمة حيث قامت مايكروسوفت بتوفير البنية التحتية عبر "Azure"، بينما قدمت أمازون خدمات الحوسبة السحابية المتطورة من خلال منصة "AWS" وتستخدم هذه الأنظمة في تحليل البيانات العسكرية والقيام بعمليات مراقبة واستهداف دقيقة للأهداف.
· استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي فى تحليل الصور الجوية
تقنيات الذكاء الاصطناعي التي طوّرتها شركات مثل" جوجل" و" أمازون" تُستخدم في تحليل الصور الجوية الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، مما يساعد الجيش الإسرائيلي على تتبع الأهداف، سواء كانت مواقع عسكرية أو مدنية. هذه التقنيات تزيد من دقة العمليات العسكرية، وبالتالي تزيد من معدلات التدمير في المناطق المحتلة مثل غزة.
· تكنولوجيا التواصل والمراقبة
"جوجل" و" مايكروسوفت" تُقدمان أدوات تكنولوجية متطورة تساعد الجيش الإسرائيلي في تطوير أنظمة التواصل والمراقبة. تعتمد بعض هذه الأدوات على أنظمة الاتصالات السريعة و المراقبة الرقمية، التي توفر للجيش الإسرائيلي تقنيات متطورة لمتابعة الأشخاص والأماكن المستهدفة في الأراضي الفلسطينية وغزة .
ثانيا - الدعم غير المباشر :
لا يقتصر الدعم على تلك الشركات التي تتعاون مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، بل يشمل أيضًا التعاقد مع شركات تكنولوجيا أخرى تعمل مع الجيش الاسرائيلى .
· دعم شركات تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية : هناك العديد من شركات التكنولوجيا الكبرى التي تقدم تقنيات للبنية التحتية العسكرية لشركات اخرى بدون أن تكون لديها دراية كاملة بكيفية استخدامها. على سبيل المثال "إنتل " و "إيه إم دي" (AMD) و "سيمنز" توفر جميعها تقنيات متقدمة يمكن استخدامها في صناعة الاسلحة الفتاكة .
· التوريد المباشر للأجهزة والبرمجيات المستخدمة في العمليات العسكرية : يتم توريد البرمجيات التي تستخدمها القوات العسكرية الإسرائيلية لتحديد الأهداف الاستراتيجية في غزة وغيرها من المناطق المحتلة مثل تقنيات التجسس و الرصد الإلكتروني التي طورتها بعض الشركات فقد تم استخدامها لمراقبة وتحليل الاتصالات في الأراضي الفلسطينية .
وربما يرجع إحدى الأسباب التي تسهم في تعزيز هذا الدعم غير المباشر والمباشر لاسرائيل هو" الربحية" التي تجنيها هذه الشركات من عقودها مع الجيش الإسرائيلي، فهذه العقود تأتي بأرباح ضخمة وهو ما يجعل الشركات تتجاهل المسائل الأخلاقية لكونها تُحقق مكاسب مادية ومنها تلك العقود العسكرية التي تبرمها شركات مثل" مايكروسوفت" و" أمازون " مع إسرائيل لتوفير الأدوات التي تعتمد عليها القوات العسكرية. هذه العقود تُعتبر بمثابة "أرباح ضخمة" للشركات التي تسعى إلى زيادة حصتها في السوق العسكرية العالمية بصرف النظر عن ان نتائجها تكون لصالح تدمير الحياة الانسانية فى دول تكافح ضد الاحتلال.
الازدواجية الاخلاقية وتضارب المصالح
فى حين نجد ان الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا تدعي في مؤتمراتها أن لديها مسؤولية اجتماعية وأخلاقية تجاه المجتمعات التي تعمل فيها، بل وتقوم بترويج تقنيات تهدف إلى حل المشكلات الإنسانية مثل الفقر والتعليم والصحة. ومع ذلك نجد أنها في الواقع تدعم الأنظمة العسكرية التي تشارك في انتهاك حقوق الإنسان .كما ان الشركات التي تدعو إلى تحسين حياة البشر وحماية البيئة تجد نفسها بشكل غير مباشر أو مباشر تقدم خدمات تكنولوجية تستخدم في تدمير حياة البشر في مناطق مثل غزة .و بعض هذه الشركات تُروج للسلام والتنمية في المؤتمرات الدولية لكنها في الواقع تقوم بتقديم خدمات للجيش الإسرائيلي الذي يستخدم هذه الأدوات في الحروب والهجمات على المدنيين والشعب الاعزل الفلسطيني فى غزة وبعض مناطق الضفة الغربية .
تأثير سلبى على القطاع التكنولوجي العالمى
ولذلك على الرغم من التقدم الكبير الذي حققته شركات التكنولوجيا في عدة مجالات لخدمة الإنسانية، إلا أن دعم هذه الشركات للجيش الإسرائيلي يؤثر سلبًا على سمعة القطاع التكنولوجى العالمى بشكل عام. ففي النهاية تصبح هذه الشركات جزءًا من الهجوم على الحقوق الفلسطينية وحقوق الانسان فى العالم مما يؤدي إلى تآكل الثقة في القطاع التكنولوجي ككل وتاثيرات سلبية أخرى عديدة اهمها :
أولها - فقدان الثقة من قبل المجتمع الدوليا : عندما تتضح روابط هذه الشركات مع الجيش الإسرائيلي، يُصبح هناك مقاطعة أو رفض لهذه الشركات من قبل العديد من المجتمعات في دول مختلفة، خاصة في الدول العربية والعالم الثالث ودول العالم الحر .
ثانيها – تراجع فى علاقة الشركات بالعاملين بها : العديد من الموظفين داخل هذه الشركات قد يشعرون بالاستياء بسبب استغلال التقنيات في دعم الحروب. هذا يشجع بعضهم على الاستقالة أو على المطالبة بإعادة التفكير وربما فضح السياسات التي تتيح لهذه الشركات دعم الأنظمة العسكرية فى الدول المستبدة مثلما فعلت المهندسة الحرة "ابتهال ابوسعد " المغربية بشركة "مايكروسوفت .
ثالثها -التشكيك فى نوايا واهداف الشركات : ازدواجية المعايير هذه دفعت العديد من النقاد وناشطي الحقوق الرقمية إلى التشكيك في مصداقية "المسؤولية الاجتماعية" والنوايا والاهداف المعلنة التي تتبناها هذه الكيانات والشركات العالمية.
مسئولية المجتمع الدولي
إن معضلة الشركات الكبرى لا تقتصر فقط على نواياها، بل تمتد إلى مسؤولية المجتمع الدولي الذي يغض الطرف عن ممارساتها. ففي الوقت الذي تُفرض فيه عقوبات على دول نامية لاستخدام تقنيات مراقبة، تُمنح الشركات الغربية صلاحيات مفتوحة لدعم أنظمة مشهور عنها العنف منظم والاستبداد . كذلك الحكومات الغربية مسؤولة إذ إنها طرف مباشر في عقد هذه الشراكات، بل وتغذيها في إطار التحالفات الجيوسياسية . أما نحن، كمستخدمين، فلدينا دور لا يقل أهمية فعلينا التفكير فيما وراء الأزرار التي نضغطها وعلينا أن نُعيد تعريف علاقتنا بالتكنولوجيا من مستهلكين سلبيين إلى مشاركين واعين بل ورافضين لهذه الازدواجية الاخلاقية للشركات فلا يمكن ان نسمح للشركات الكبرى أن تواصل اللعب على الجانبين "دعم التنمية - ومساندة الحروب" ، فإما أن تكون التكنولوجيا في دعم الحياة أو تتحول إلى أداة للموت . المطلوب اليوم ليس فقط مقاطعة أو تغريدات غاضبة، بل حركة عالمية مدنية تُطالب هذه الشركات بشفافية كاملة حول تعاقداتها العسكرية، ومواثيق رقمية أخلاقية تُجبرها على احترام حياة الإنسان أينما كان.وإن لم نفعل ذلك فإن "الابتكار" الذي نبني عليه حاضرنا سيكون هو ذاته الأداة التي تهدم مستقبلنا .
"فى الختام نؤكد ان اسهامات شركات التكنولوجيا العالمية خلال العقدين الماضيين من دعم للبشرية فى مجالات عديدة يصعب حصرها ولا يُمكن تجاهله، فقد أعادت تشكيل الحياة الإنسانية، وقلّصت الفجوة بين المجتمعات، وساهمت في تحسين حياة مليارات البشر. لكن هذه الانجازات لا تُصبح قوة حضارية إلا عندما تُستخدم في الخير، وتُضبط بمعايير أخلاقية تحمي الإنسان وحقوقه، لا أن توظف لصالح الصراعات العسكرية . إن الدور السلبي لشركات التكولوجيا الذى انكشف مؤخرا - من خلال ابتهال ابو السعد وشرفاء اخرين - في دعم الجيش الإسرائيلي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يعكس ازدواجية في الأخلاقيات فهى من ناحية تعمل على تقدم الحياة الإنسانية من خلال الابتكارات التقنية وتيسير الحياة وتطويرها إلا أنها في ذات الوقت تساهم في الدمار والدماء عبر تقديم الدعم العسكري للأنظمة العسكرية القمعية . ويكمن الحل في أن يتحمل المجتمع الدولى مسئوليته فى رفض هذه السلبيات كما ان هذه الشركات يجب ان يكون لديها المسؤولية الأخلاقية تجاه استخدام تقنياتها وأن تضع مبادئ حقوق الإنسان في مقدمة أولوياتها، لاسيما عندما تتعلق التقنيات بدعم أي شكل من أشكال العنف أو انتهاك حقوق الشعوب وعلى راسها حقوق فلسطين وشعبها فى حياة حرة كريمة"