بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
في سوق تحكمه الأخبار والتقلبات، تأتي القفزة الجديدة لعملة البيتكوين فوق مستوى 105,000 دولار كحدث محوري يستدعي تحليلاً عميقًا بعيدًا عن الانبهار السطحي بالأرقام. فالحدث الأهم من مجرد تجاوز رقم مستهدف هو التفاعل المؤسسي العميق مع السوق، والذي يتمثل بوضوح في التدفقات الاستثمارية التي سجلتها منتجات العملات المشفرة للأسبوع الخامس على التوالي، بإجمالي بلغ 785 مليون دولار في أسبوع واحد، وبمجموع سنوي حتى الآن يصل إلى 7.5 مليار دولار. ومن وجهة نظري، فإن هذه الأرقام لا تشير فقط إلى حالة من التفاؤل السائد، بل تعكس أيضًا تحوّلًا جوهريًا في المزاج الاستثماري العالمي تجاه الأصول المشفرة.
واللافت أن شركة Strategy، التي باتت اسمًا ملازمًا للاستثمار المؤسسي في البيتكوين، أضافت وحدها 7,390 بيتكوين إلى محفظتها في الأيام القليلة الماضية، بقيمة تقترب من 765 مليون دولار. وهذه الخطوة ترفع حيازتها الإجمالية إلى 576,230 بيتكوين، أي ما يعادل أكثر من 40 مليار دولار. ولا يمكن تفسير مثل هذا التحرك الضخم إلا في سياق قناعة استراتيجية راسخة بأن البيتكوين لم يعد مجرد أصل مضاربي، بل أداة تحوّط، ووسيلة لتخزين القيمة، وربما منافس مباشر لبعض أدوات الدين السيادي على المدى الطويل. غير أن توقيت هذه الصفقة الضخمة – الذي جاء متزامنًا مع دعوى قضائية ضد الشركة – يثير تساؤلات مشروعة حول دوافع الشراء الحقيقية، وما إذا كانت استراتيجية تحاول دفع السوق بشكل تكتيكي لتغيير رواية قد تضرّ بصورتها أمام المساهمين والمستثمرين.
لذا أرى، إن دخول استثمارات جديدة بهذا الحجم، وفي هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها الاقتصاد العالمي، يكشف عن توقعات داخلية بأن موجة صعود جديدة قد تكون قيد التشكل، خاصة مع بقاء البيتكوين أعلى من مستوى 100,000 دولار رغم انخفاض السوق العام بنسبة 1.2%. فالسوق بات يميّز بوضوح بين التحركات المدفوعة بالزخم القصير الأجل، وتلك التي تعتمد على قناعة مؤسسية عميقة، تدعمها بيانات ومؤشرات كلية مثل السياسة النقدية الأمريكية.
ويبدو أن اجتماع الاحتياطي الفيدرالي الأخير كان له وقع إيجابي في هذا السياق، إذ فُسِّر على نطاق واسع كإشارة على تباطؤ دورة التشديد النقدي، وربما التحول نحو سياسة أكثر تيسيرية في المستقبل القريب. وهذا النوع من التغيرات في السياسة النقدية يعزز شهية المخاطرة، ويدفع بالسيولة نحو الأصول البديلة، بما فيها العملات المشفرة، وخاصة البيتكوين الذي بات يُنظر إليه على نحو متزايد كـ"ذهب رقمي".
غير أن هذا الاندفاع المؤسسي لا يخلو من تعقيدات قانونية وتنظيمية. فالدعوى القضائية الأخيرة ضد شركة Strategy بسبب "معلومات مضللة" مرتبطة باستثماراتها في البيتكوين تسلط الضوء على هشاشة البيئة القانونية التي تعمل فيها هذه الكيانات. فالشكوى تشير إلى وجود فجوة في الشفافية بخصوص المخاطر والربحية، وهي مسألة في غاية الأهمية في عالم الأصول المشفرة الذي لا يزال غير خاضع لضوابط صارمة مثل الأسواق المالية التقليدية. ومن وجهة نظري، فإن مثل هذه القضايا قد تكون نقطة التحول القادمة، إما نحو تنظيم أكثر نضجًا يدفع السوق إلى مصداقية أكبر، أو نحو تضييق قد يتسبب بضعف الزخم الحالي.
تزامناً مع هذه التطورات، تأتي تصريحات هيستر بيرس، مفوضة لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، لتضع لبنة جديدة في معمار التنظيم القادم لهذا القطاع. فهي أكدت أن معظم الأصول المشفرة لا تندرج تحت فئة الأوراق المالية، مما يرجح احتمال وضع تصنيفات قانونية جديدة قد تسمح بتوسع السوق دون أن يكون تحت ضغط القوانين التقليدية. غير أن حديثها عن ضرورة وجود "حقوق اقتصادية" لكي تُعتبر العملة ورقة مالية يعيد الجدل إلى نقطة محورية: ما الذي يجعل الأصل المشفر استثمارًا مشروعًا في نظر القانون، وما الذي يجعله مجرد وسيلة مضاربة؟
من ناحيتي أرى أن السوق بحاجة ماسة إلى إطار تنظيمي وسط، يسمح بالابتكار دون أن يسمح بانتشار الفوضى. فتصريحات بيرس عن إمكانية استثناء الاطلاقات عبر البوت للعملات من اعتباره "عرض أوراق مالية" خطوة في هذا الاتجاه، وتكشف عن وعي متزايد لدى الجهات التنظيمية بأن فرض قوالب قديمة على أدوات جديدة لن يكون حلًا ناجحًا. لكن بالمقابل، فإن الإشارة إلى ضرورة "ملاذات آمنة" وتنظيم المبيعات الثانوية يعكس إدراكًا بأننا لا نتحدث فقط عن أصول جديدة، بل عن بيئة مالية بديلة كاملة تتشكل أمامنا.
وفي حين يتابع المستثمرون الكبار مثل MetaPlanet اليابانية إضافة آلاف البيتكوين إلى محافظهم، كما حدث في إعلانها عن شراء 1,004 بيتكوين إضافية بقيمة 104 ملايين دولار، فإننا أمام ظاهرة واضحة: التحول من المضاربة إلى التراكم. وهذا يعكس قناعة استراتيجية لدى الحيتان بأن البيتكوين سيحافظ على زخمه كأصل عالمي، بغض النظر عن التقلبات قصيرة الأجل أو القضايا القانونية.
وفي المحصلة، أرى أننا أمام مشهد غير مسبوق: البيتكوين يتحرك كأصل ناضج، المؤسسات تشتري بكثافة رغم المعارك القانونية، والجهات التنظيمية تعيد صياغة أطر الفهم والتصنيف. ومن وجهة نظري، فإن البيتكوين بات حجر زاوية في النظام المالي الجديد، وما نشهده الآن هو معركة بين قوى التبني الجماعي وقوى الشك التنظيمي. والأرجح أن التبني سيفوز، لا لأن البيتكوين بلا مخاطرة، بل لأن النظام القائم بات أقل قدرة على احتواء الواقع المالي الجديد دون تغيّر جذر .