بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يشهد مؤشر نيكاي 225 الياباني مرحلة فارقة مع تجاوزه مستوى 50 ألف نقطة للمرة الأولى في تاريخه، في حركة لم تأتِ من فراغ، بل استندت إلى تلاقي عوامل سياسية واقتصادية عززت شهية المستثمرين تجاه الأصول الآسيوية. وأرى أن انحسار التوترات بين الولايات المتحدة والصين شكل المنصة الأولى لهذا الارتفاع، فالأسواق لطالما تعاملت مع العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم كعامل تهديد مباشر لتدفقات التجارة العالمية وسلاسل الإمداد، وخاصة حين كانت لغة الرسوم الجمركية هي السائدة. وقد وصول المفاوضين الأميركيين والصينيين لتوافق حول القضايا الأساسية يمنح الأسواق لحظة التقاط أنفاس كانت في أشد الحاجة إليها، ويمهد لاجتماع بين ترامب وشي باعتباره نقطة تثبيت للتفاهمات. وبرأيي، أي تأكيد رسمي لاتفاق تجاري دائم سيكون وقوداً إضافياً يدفع الأصول الآسيوية نحو مستويات أعلى.
وتشكل هذه التطورات الخارجية بيئة داعمة للغاية للبورصات الآسيوية، لكن صعود نيكاي الأخير لا يمكن عزله عن الداخل الياباني. والأسواق تبني توقعاتها اليوم على وعود الإنفاق المالي الكبير الذي تعهدت به رئيسة الوزراء الجديدة ساناي تاكايتشي. حكومة متوجهة نحو تحفيز اقتصادي مباشر تعني دفعة قوية للشركات اليابانية، ما يجعل المستثمرين أكثر رغبة في تمويل توسعاتها وشراء أسهمها. أرى أن هذه السياسة قد تعيد الحيوية إلى الاقتصاد الياباني الذي عانى طويلاً من تباطؤ التضخم وضعف الطلب المحلي. ارتفاع نيكاي بنسبة تقارب 2٪ وتداوله حول مستوى 50,300 نقطة يؤكد أن التفاؤل لم يعد مجرد حديث سياسي، بل أصبح ترجمة فعلية في حركة الأموال.
وتستمد أسواق الأسهم دعماً موازياً من اتجاه هابط للدولار الأمريكي نتيجة توقعات قوية بخفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي. وضعف الدولار تلقائياً يمنح الأسهم الآسيوية ميزة تنافسية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالشركات التصديرية اليابانية العملاقة التي تعتمد على انكشاف خارجي واسع. تقديرات خفض الفائدة بنسبة تتجاوز 90٪ خلال الأشهر المقبلة تعكس تحوّلاً واضحاً في سياسة الاحتياطي الفيدرالي نحو مزيد من التيسير النقدي. وجهة نظري أن استمرار ضعف الدولار قد يضيف حوالي 5٪ إضافية على الأقل على أداء الشركات اليابانية المدرجة خلال الربعين المقبلين إذا بقيت الظروف التجارية العالمية مستقرة.
وقوة الحركة السعرية لم تنعكس فقط على المؤشر الكلي بل ظهرت بوضوح داخل مكونات نيكاي. إضافة شركة إيبيدن المحدودة إلى المؤشر القياسي وتحقيق سهمها قفزة تجاوزت 21٪ إلى مستويات تاريخية، مقابل هبوط حاد يقارب 20٪ لسهم نيديك المستبعد، يعزز رؤية مفادها أن السوق اليابانية تعيش حالة إعادة تقييم هيكلية. من الطبيعي أن نشهد تقلبات كهذه ضمن حركة إعادة تشكيل المؤشرات، غير أن قوة رد الفعل الإيجابي في حالة إيبيدين تدل على ثقة المستثمرين بقطاع التكنولوجيا الياباني الذي يمثل ركيزة رئيسية في صعود نيكاي. في المقابل، خروج نيديك نتيجة شبهات محاسبية يوضح أن السوق تكافئ الشفافية وتحاسب بصرامة، ما يدعم جودة المكونات المستقبلية للمؤشر ويرفع موثوقيته عالمياً.
والمشهد الإيجابي لا يعني غياب المخاطر مطلقاً. ففي الواقع أرى أن أي انتكاسة مفاجئة في المفاوضات التجارية الأمريكية الصينية قد تعيد التوتر إلى الواجهة وتضرب التوقعات في الصميم. الشركات اليابانية تعتمد على سلاسل إمداد مترابطة بقوة مع الصين، وأي اضطراب جديد سيؤثر عليها بشكل مباشر. القرارات الحكومية المرتقبة فيما يخص حجم وتوقيت الإنفاق المالي ستكون هي الأخرى تحت المجهر. المستثمرون لا يستجيبون للوعود فقط، بل ينتظرون إجراءات تنفيذية واضحة. إضافة إلى ذلك ما زال التضخم الياباني دون المستويات المستهدفة، ما قد يفرض ضغوطاً على أرباح الشركات إذا ظلت وتيرة ارتفاع الأسعار ضعيفة. وأرى أن استمرار صعود المؤشر يتطلب أن تقرن الحكومة سياستها المالية بخطة تحفيز استثماري موجهة نحو القطاعات عالية القيمة مثل الرقاقات الإلكترونية والطاقة المتجددة.
وفي المدى القريب أتوقع أن يبقى مؤشر نيكاي في اتجاه صعودي مدعوم بتدفقات قوية من رؤوس الأموال العالمية الباحثة عن فرص نمو في آسيا. وأي تهدئة رسمية ونهائية للتوترات التجارية ستوفر ما يشبه الضمانة لامتداد موجة التفاؤل. في المقابل، قد نشهد جني أرباح مرحلي حول مستويات 51 ألف نقطة في حال انخفض زخم الأخبار الإيجابية. فالمستثمر الذكي ينبغي أن يوازن بين المخاطرة والعائد، وأن يراقب قرب إعلان أرباح الشركات الكبرى والاجتماعات المقبلة للبنوك المركزية التي قد تؤثر في شهية المخاطرة.
لذا أرى أن اليابان أمام لحظة اقتصادية استثنائية. إذا حافظت على التوازن بين التوسع المالي والانضباط الإنتاجي، فقد تجعل من تجاوز نيكاي لمستوى 50 ألف نقطة ليس محطة مؤقتة، وإنما بداية لمرحلة جديدة تغير مكانة السوق اليابانية في الخارطة العالمية. وسيبقى التفاؤل سيد الموقف طالما بقيت السياسة الاقتصادية واضحة والدعم الدولي قائماً. فرؤيتي الشخصية أن المؤشر لديه القدرة على بلوغ نطاق 53 إلى 55 ألف نقطة خلال الأشهر الستة المقبلة إذا اجتمعت ظروف السوق كما تبدو اليوم.








