د. عادل اللقانى
خبير تكنولوجيا المعلومات
"تعد صناعة المحتوى الرقمي في مصر واحدة من أبرز القطاعات التي شهدت نموًا كبيرًا بالسنوات الأخيرة وذلك مع تزايد عدد صناع المحتوى على منصات السوشيال ميديا والذين بدورهم أصبحوا يشكلون جزءًا من المشهد الإعلامي والاجتماعي في البلاد. ومع هذا النمو بدأت تبرز امامهم تحديات قانونية وأخلاقية فى ظل طرح مجموعة من القوانيين الحكومية الجديدة . إحدى القضايا التي سلطت الضوء على هذه التحديات كانت قضية اليوتيوبر المصري" أحمد أبو زيد " والتي أثارت جدلًا واسعًا حول مدى قانونية اتهامه في قضية الاتجار بالنقد الاجنبى والذى حصل عليه بصورة قانونية تماما من عوائد المحتوى الذى ينشره ، ورغم انحياز الاراء فى الشارع المصرى وتشككهم فى عدم قانونية الاتهام الا ان السلطات اعتبرت من جانبها ان هذا الفعل يعد مخالفا للمعايير القانونية الجديدة . وبما أحدثته القضية من ضجة كبيرة فقد اصبحت نقطة محورية في نقاش أوسع حول فرص نمو صناعة المحتوى الرقمى في مصر ومدى تأثير القوانين الجديدة على صانعيه.. سنتناول في هذا التقرير كيف ستؤثر هذه القضية وغيرها على صانعى المحتوى في مصر مستقبلا".
في 30 ديسمبر 2024 القت الأجهزة الأمنية القبض على اليوتيوبر أحمد أبو زيد - صاحب قناة "دروس أونلاين"- بتهمة التعامل غير المشروع في النقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفية الرسمية حيث ضُبط بحوزته مبلغ 163 ألف دولار بغرض الاتجار وهاتف محمول يحتوي على رسائل قالت السلطات انها تثبت تورطه في النشاط غير المشروع .وفي 18 يناير 2025 قررت محكمة جنايات طنطا الاقتصادية تأجيل محاكمته لجلسة 16 فبراير 2025 مع إخلاء سبيله على ذمة القضية ثم قررت المحكمة تأجيلها مرة اخرى الى 15 مارس 2025 للنطق بالحكم واخيرا اصدرت المحكمة حكمها بالبراءة لاحمد ابو زيد من هذه التهم .
وتعتبرقضية أحمد أبو زيد انها ليست الأولى من نوعها في مصر فيما يتعلق بملاحقة صناع المحتوى قضائيا ، ولكن في السنوات الأخيرة ظهرت عدة قضايا مشابهة أثارت جدلاً حول حرية التعبير على منصات السوشيال ميديا وصناعة المحتوى الرقمي. من هذه القضايا المماثلة التي سبقت قضية أبو زيد قضايا لمؤثرين ويوتيوبرز وشخصيات مشهورة فى السوشيال ميديا تم اتهام بعضهم بنشر محتوى يخالف القيم الاجتماعية والاخلاقية فى مصر، والبعض الاخر بنشر مقاطع تم اعتبارها مسيئة للحكومة او اساءة للرموز الدينية اومحتوى تحريضى على السلطة او محتوى غير اخلاقى يدعو للاباحية فى المجتمع المصرى . واظهرت هذه القضايا التوتر المستمر بين حرية التعبير وصناعة المحتوى الرقمي من جهة، وبين محاولات الحكومة من جهة اخرى لضبط وتوجيه هذا المحتوى ليكون متماشيًا مع القيم الاجتماعية والقوانين المحلية ، كما تم اصدارقوانين اخرى فى الاونة الاخيرة بغرض زيادة دخل الدولة من وراء هذه الصناعة ، الا ان قضية أحمد أبو زيد التى جاءت في هذا السياق تم اعتبارها واحدة من القضايا الكبيرة التى شغلت الراى العام نظرا لاستحواذ صاحبها على احترام وتقدير جمهور واسع من مصر والوطن العربى بسبب جودة ونوعية المحتوى الذى ينشره مما اثارت نقاشا واسعًا ولم ينتهى حول الفرص المتاحة لصناع المحتوى في تطوير هذه الصناعة ومدى تأثير القوانين الجديدة عليهم مستقبلا .
واذا اردنا ان نرصد الموقف الراهن بالنسبة لصناعة المحتوى والقائمين عليه في مصر نجد انها شهدت تطورات كبيرة في السنوات الأخيرة، وفيما يلي تلخيص لهذا المشهد فى عدة نقاط هى :
اولا : نمو متسارع - فصناعة المحتوى في مصر شهدت نموًا هائلًا في العقد الأخير بفضل منصات مثل يوتيوب، فيسبوك، إنستجرام، تيك توك، وتويتر والتى ساعدت على توفير مساحة مناسبة جدا لصناع المحتوى المصريين لنشر أعمالهم وبدء مشاريعهم الخاصة.
ثانيا : تنوع كبير للمحتوى - أصبح المحتوى أكثر تنوعًا في المواضيع والأساليب (الترفيهي والكوميدي، إلى المحتوى التعليمي، والتكنولوجي، والسياسي، والثقافي وغيره )، ويزداد حاليا التوجه نحو الفيديوهات القصيرة (خاصة عبر تيك توك ،وإنستجرام) مما ساعد على انتعاش قطاع صناعة المحتوى بشكل أكبر .
ثالثا : التربح من الاعلانات - مع زيادة عدد صناع المحتوى، أصبح لديهم قدرة على تحقيق دخل من خلال الإعلانات والشراكات التجارية مع الشركات الكبرى ويحققون دخلًا ثابتًا من إعلانات المنتجات والخدمات .
رابعا :تزايد كبير فى عدد صناع المحتوى – زاد بشكل كبير أعداد الشباب المصريين الذين يعتمدون على منصات مثل يوتيوب، تيك توك، إنستجرام وفيسبوك كمصدر للدخل أو كوسيلة للتعبير عن آرائهم.
خامسا : التوسع في استخدام التكنولوجيات الجديدة والذكاء الاصطناعي - مع التطور التكنولوجى وتزايد استخدام الذكاء الاصطناعي ، بدأ صناع المحتوى باستخدام هذه التقنيات مثل تحليل البيانات ،والخوارزميات لتحسين جودة المحتوى والوصول إلى الجمهور المستهدف بشكل أكثر فاعلية وساعدهم على ذلك توافر هذه التقنيات فى منصات مثل يوتيوب، وفيسبوك، و تيك توك التى سهلت وجود أدوات متطورة لتحليل التفاعل مع المحتوى وتحقيق أداء أعلى . ومن المتوقع أن تشهد صناعة المحتوى الرقمي مزيدًا من الابتكار مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز في إنشاء محتوى تفاعلي جذاب.
سادسا : زيادة في إنشاء المحتوى المرئي - المحتوى المرئي خاصة الفيديوهات القصيرة أصبح هو السمة البارزة على معظم منصات السوشيال ميديا في مصر، خاصة في ظل تصاعد استخدام تيك توك. هذا التحول في التوجه زاد فى الاونة الاخيرة وسيستمر في السنوات القادمة مع تزايد شعبيته في جذب الجمهور.
سابعا : زيادة الفرص التجارية والتسويق المؤثر - أصبحت السوشيال ميديا وسيلة رئيسية للشركات للتسويق والإعلان ويتعاون العديد من صناع المحتوى مع العلامات التجارية لتقديم محتوى دعائي، وتعتبر هذه الشراكات مصدر دخل رئيسي لهم. كما يشهد السوق المصري نموًا في التجارة الإلكترونية باستخدام منصات مثل إنستجرام، وفيسبوك .
ثامنا: زيادة القوة المؤثرة على الشان العام - يتواجد في مصر مجموعة كبيرة من المؤثرين الرقميين الذين يملكون قاعدة جماهيرية كبيرة على منصات السوشيال ميديا بمصر والوطن العربى .هؤلاء المؤثرون أصبحوا جزءًا من حياتنا اليومية ولهم تأثير ملحوظ على الرأي العام، وأصبح لديهم القدرة على تغيير اتجاهات السوق والنقاش العام .
تاسعا : زياة فى انتشار الفيديوهات ذات الطابع الشخصي - أحد أبرز الاتجاهات في المشهد المصري هو اتجاه صناع المحتوى إلى تقديم قصص حياتهم الشخصية أو تقديم محتوى ذو طابع إنساني يعبر عن تجاربهم اليومية.
ويمكن الان ان نضيف لهذا المشهد بانه رغم ان صناعة المحتوى الرقمي في مصر تتسم بالنمو السريع والتنوع الواسع ، الا انه في الوقت ذاته كان هناك هاجسا متزايدا يواجه صانعى المحتوى هو كيفية احداث التوازن بين اعمالهم الابتكارية وابداعاتهم بحرية فى التعبير مع تصاعد الرقابة على المحتوى من قبل الحكومة وضرورة مسايرة القوانين ونظم الضرائب الجديدة والقرارات الجديدة التى انبثقت مؤخرا عن الأزمات السياسية أو الاقتصادية فى البلاد. ولفهم هذه النقطة بالذات يجب التطرق الى بعض ماقامت به الحكومة المصرية مؤخرا من اجراءات وتشريعات جديدة بهدف تنظيم النشر الرقمى على منصات السوشيال ميديا :
اولا : إنشاء المجلس الأعلى للإعلام (2016) - هو المسؤول عن وضع السياسات الخاصة بالإعلام الرقمي بهدف تنظيم الأنشطة الإعلامية والصحفية، بما في ذلك المحتوى على السوشيال ميديا .
ثانيا : قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية (قانون 175 لسنة 2018) - ينظم هذا القانون الأنشطة الرقمية على الإنترنت ويهدف إلى مكافحة الجرائم الإلكترونية، مثل نشر الشائعات، والتهديدات، والتشهير، والمحتوى الذي يحرض على العنف اوالارهاب .
ثالثا : تطبيق نظام تصنيف المحتوى الرقمي - فرضت الحكومة قوانين تُلزم منصات السوشيال ميديا مثل فيسبوك ويوتيوب بتصنيف المحتوى بناءً على فئات معينة مثل المحتوى العائلي، الترفيهي، التعليمي، والانسانى ،والدينى ، لكى يُساعد في توجيه المتابعين إلى المحتوى المناسب لهم .
رابعا : إجراءات مكافحة الشائعات والمعلومات المضللة - تهدف بعض التشريعات مثل قانون مكافحة نشر الشائعات إلى معاقبة الأشخاص الذين ينشرون معلومات مضللة على الإنترنت التي قد تؤثر على الاستقرار الأمني أو الاجتماعي في البلاد .
خامسا : التعاون مع شركات السوشيال ميديا - لتحديد مصدر الشائعات وملاحقة من يروجون لهذه المعلومات المضللة.
سادسا : فرض ضريبة على دخل صناع المحتوى- يتم فرض ضريبة على صناع المحتوى الذين يحققون دخلًا من الأنشطة التي يمارسونها على منصات السوشيال ميديا ويشمل هذا الدخل المعلن من الإعلانات المدفوعة، والشراكات التجارية، ورعاية العلامات التجارية.
سابعا : التسجيل الضريبي- صناع المحتوى الذين يحققون دخلًا من منصات السوشيال ميديا ملزمون بالتسجيل لدى مصلحة الضرائب، والتصريح بمداخيلهم من الإعلان أو الرعاية.
ثامنا : الضريبة على الخدمات الرقمية- إذا كان صانع المحتوى يقدم خدمات رقمية أخرى ( دورات تعليمية، استشارات، بيع منتجات)، فإنه يكون ملزمًا أيضًا بتسجيل أعماله ضمن ضريبة القيمة المضافة .
تاسعا : تسجيل الحسابات البنكية: قامت الحكومة بتكثيف الرقابة على الحسابات البنكية التي يتم تحويل الأموال إليها من خلال منصات السوشيال ميديا، ويطلب من صناع المحتوى الذين يتلقون أموالًا من الرعايات أو الإعلانات فتح حسابات بنكية رسمية لتوثيق المعاملات المالية، ما يسهل عملية تحديد المبالغ التي يتم تحويلها لهم ويضمن تحصيل الضرائب عليها .
ناتى الى السؤال الرئيسى فى هذا الموضوع : ماهى الآثار المتوقعة لهذه الإجراءات وهل هى فى صالح القائمين على صناعة المحتوى وتطويره أم ضده ؟ ويمكن ان نلخص الاجابة فى النقاط التالية :
اولا : زيادة القيود على محتوى اليوتيوب في مصر - بدأ صناع المحتوى يشعرون بقلق من فرض مزيد من القوانين والقيود على المحتوى، مما قد يحد من حرية التعبير والإبداع، ويجعلهم عرضة للمسائلة القانونية في حال خرق أي من هذه القوانين .
ثانيا : تزايد المخاوف بين اليوتيوبرز المصريين - اصبح هؤلاء يخافون من إغلاق قنواتهم أو تعليق محتواهم، خصوصًا إذا تم تقييم محتواهم على أنه لا يتماشى مع معايير معينة .
ثالثا : تقليص نشاط بعض صناع المحتوى- قلل البعض من انشطتهم او قاموا بتعديل أساليبهم لتجنب المشاكل القانونية، مما أثر على دخلهم وأرباحهم التي يعتمدون عليها .
رابعا : إنشاء محاسبين مختصين لصناعة المحتوى - أصبح هناك حاجة متزايدة لوجود محاسبين متخصصين في الضرائب الرقمية ليساعدوا صناع المحتوى على توجيه وتنظيم حساباتهم الضريبية لتجنب أي مخالفات قانونية .
خامسا : تأثير سلبى على الإبداع والحرية - كان اليوتيوبرز وصناع المحتوى في مصر عادة ما يعتمدون على تقديم محتوى متنوع وأحيانًا يكون غير تقليدي. ومع فرض المزيد من الرقابة، بدأوا يشعرون أن الإبداع قد يصبح محكومًا بقواعد صارمة قد تمنعهم من تقديم أفكار جديدة أو تجارب مبتكرة .
سادسا : ارتفاع المناقشات حول مفهوم "الحرية" على الإنترنت - ادت مجموعة القضايا الاخيرة التى شهدتها المحاكم إلى مناقشات كبيرة في الأوساط الإعلامية والشعبية حول حدود الحرية على الإنترنت في مصر، وحول كيفية التعامل مع صناع المحتوى الذين يطمحون لتقديم أفكار مختلفة قد تتعارض أحيانًا مع المعايير التقليدية .
ثامنا : تأثير سلبى على العلاقة بين اليوتيوبرز والمعلنين - تراجعت الشركات المعلنة عن دعم بعض اليوتيوبرز بسبب الخوف من التبعات القانونية أو الفوضى التي قد تتبع حدوث أزمة مشابهة.
فى الختام نجد ان أزمة أحمد أبو زيد قد سلطت الضوء بقوة على بعض القضايا الهامة التي تواجه صناع المحتوى في مصر بالاونة الاخيرة مثل : القوانين المتغيرة، تأثير الرقابة، والقلق من الملاحقات القانونية. هذه الأزمة جعلت العديد من اليوتيوبرز يراجعون استراتيجياتهم لتجنب المشاكل القانونية مما قد يؤثرعلى حرية التعبير والإبداع فى الفضاء الرقمى ،وزيادة الأعباء المالية على صناع المحتوى، ومن جهة اخرى قد تستطيع الاجراءات الحكومية بمزيد من التنظيم والاجراءات والتعديلات خلق بيئة أكثر تنظيمًا لصناعة المحتوى الرقمي مما قد ينعكس ايجابيا على تطوير القطاع على المدى الطويل وتشجيع صناع المحتوى على تقديم محتوى احترافي ومنظم بشكل أفضل، إلا انه من المؤكد ان هناك تحديات كبيرة سوف يواجهها صناع المحتوى حاليا في التأقلم مع هذه القوانين والبيئة الجديدة للاعلام الرقمى وقد يحدث - لفترة غير قصيرة- تراجعا ملحوظا فى انشطتهم وابداعاتهم.