الذهب عند قياسى .. محطة فارقة في سرد الأسواق

  • بقلم : احمد عسيري

     استراتيجي الابحاث في  Pepperstone

    وصل الذهب إلى المستوى المنتظر عند 4000 دولار للأونصة ، وهو مستوى يحمل دلالات نفسية ورمزية بالغة الأهمية. هذه الخطوة تمثل تتويج لموجة صعود وزخم قوية بدأت باختراق من نطاق عرضي طويل في مطلع سبتمبر، لتتحول إلى لحظة حاسمة في مسار الأسواق والمعدن الاصفر. فمنذ ذلك الاختراق، ارتفع سعر الذهب بنحو 16%، بينما بقيت محاولات للتصحيح والتراجع محدودة وسريعة الزوال. وقد أثبتت الحركة السعرية أن المراهنة ضد هذا الاتجاه الصاعد مكلف ، إذ ما إن يتراجع السعر حتى يعود المشترون سريعاً ، مما يعزز القناعة بأن الذهب ما زال يتمتع بدعم واسع من فئات مختلفة من المستثمرين.

    محاولة بيع الذهب في هذه المرحلة تُعد مخاطرة مرتفعة لسبب بسيط وهي القناعة الراسخة من المشاركين في السوق. فالمؤسسات والبنوك المركزية والمستثمرون الأفراد جميعهم باتوا يتعاملون مع أي تراجع في السعر كفرصة للشراء وليس كإشارة تحذير او إعياء للزخم ونستذكر مستوى 3000 دولار للاوقية والذي كان فقط قبل 6 اشهر فقط على وقع التعريفات الجمركية. هذا السلوك الجماعي خلق دورة ذاتية التعزيز ، حيث يُقابل كل توقف في الزخم بموجة شراء جديدة. وهكذا ، انتقل الذهب من كونه أداة تحوط في أوقات عدم اليقين إلى أن أصبح ما يشبه صفقة القناعة  ، الاصل الذي لا يغلى ثمنه ولو ارتفع سعره ، التي تعكس شكوك أعمق في مصداقية السياسات النقدية وتخبطات صناع السايسة المالية.

    العوامل المحركة للموجة الصاعدة

    ما نشهده اليوم ليس ارتفاع مضاربي معزول عن الأساسيات الاقتصادية ، بل نتيجة لتقاطع نادر بين قوى الاقتصاد الكلي. قرار توجه الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة في وقت تظهر فيه مؤشرات نمو متجدد غيّر المعادلة التقليدية بين النمو والتضخم والسياسة النقدية. فبدلاً من استخدام خفض الفائدة كأداة دفاعية لمواجهة التباطؤ ، أصبحت الآن وسيلة استباقية لإدارة السيولة وتوجيه التوقعات ولو ان سوق العمل يظهر بعض التشققات وأيضاً ضعف الدولار الدولار بشكل كبير منذ مطلع العام أمر يشرح جزء من الزخم الداعم للذهب. وفي هذا السياق، لم يعد المستثمرون يختارون بين الأصول الخطرة والذهب ، بل أصبحوا يوازنون بينهما في عالم تتضخم فيه تقييمات الأسهم وترتفع عوائد السندات طويلة الاجل بينما تزداد ضبابية المسار بشأن مخاطر استدامة الديون العامة للاقتصاديات الكبرى مثل امريكا واليابان وغيرها.

    البنوك المركزية كانت في طليعة هذا التحول ، إذ واصلت تنويع احتياطاتها بعيداً عن الدولار مما وفر قاعدة طلب مستقرة. في الوقت ذاته ، زادت صناديق السلع وصناديق التحوط الماكرو من تعرضها للذهب كعنصر توازن للمحافظ الاستثمارية. كما تسارع النشاط الاستثماري للأفراد خصوصاً في آسيا، حيث ارتفع الطلب المادي وتزايدت أحجام التداول اكثر واكثر. ونتيجة لذلك ، اتسعت قاعدة المشترين بشكل لا يمكن تغافله وعلى ردار كل المستثمرين تقريباٌ مما أضفى على الموجة الحالية عمقاً واستدامة لافتين.

    الذهب ومخاوف فقاعة الأسهم

    النقاش في الأسواق يدور بشكل متزايد حول احتمالية تشكل فقاعة في أسواق الأسهم ، مع استمرار المؤشرات الرئيسة في تسجيل مستويات قياسية. وفي خضم هذا الجدل ، برز الذهب كأداة طبيعية للتحوط ضد المبالغة في التقييمات. بالنسبة لمديري المحافظ متعددة الأصول ، لم يعد الذهب خيار تكميلي بل أصبح ضرورة استراتيجية للتنويع، وعنصر يهدف إلى امتصاص الصدمات المحتملة في حال تبددت موجة التفاؤل أو تغيرت التوقعات المستقبلية للاقتصاد.

    المنطق بسيط ، عندما تبقى السياسة النقدية ميسرة ، وتظل التقييمات مرتفعة ، تنخفض تكلفة الاحتفاظ بالذهب بينما ترتفع قيمته كخيار تأميني في أوقات التقلب. ومن هذا المنطلق ، يُنظر إلى صعود الذهب ليس كرفض للتفاؤل في تقييمات الاسهم بالضرورة بل كاعتراف بالهشاشة الكامنة في مستقبل الاقتصاد والاستقرار النو والاسعار متجهين الى 2026.

    المرحلة القادمة

    مستوى 4000 دولار ليس فقط رقم تقريبي سهل يمكن تذكره او طال انتظاره ، بل اختبار لمعنويات السوق الاوسع. من الطبيعي أن نشهد بعض جني الأرباح والتحركات التكتيكية مع محاولة المتعاملين تقييم استدامة الزخم الحالي. وقد يكون التراجع المحدود في المدى القصير خطوة صحية تمهد لاستقرار جديد قبل موجة صعود أخرى.

    لكن التاريخ يشير إلى أن الأصول التي تتجاهل التصحيحات المتكررة عادة ما تكون مدعومة بطلب قوي وعميق. المخاطر في المرحلة المقبلة لا تكمن في التقييم بقدر ما تكمن في استعجال المتداولين. فالمراهنة على تراجع الذهب تتعارض مع المنطق الاقتصادي السائد ومع الزخم الفني المسيطر. البيئة العامة ما زالت داعمة بفعل توجهات السياسة النقدية ووجود طلب مؤسسي عالمي مستمر.

    في ضوء ذلك ، السؤال الأهم ليس ما إذا كان الذهب سيتمكن من الثبات عند مستوى 4000 آلاف دولار، بل ما إذا كان هذا المستوى سيصبح قاعدة جديدة تنطلق منها المرحلة التالية من الدورة الصاعدة. وبالنسبة للمستثمرين الذين ينتظرون فرصة للدخول ، فإن التراجع المعتدل قد يُنظر إليه كفرصة تموضع بدلاً من إشارة انسحاب.

    رسالة الذهب واضحة في عالم تتسع فيه الفجوة بين التقييمات والسياسات ، وتضعف فيه الثقة بالأصول الورقية ، يظل الذهب هو الأصل الذي يجمع بين القيمة الدائمة والدور الحديث في توازن الأسواق.

    حمّل تطبيق Alamrakamy| عالم رقمي الآن