بقلم : فريد شوقي
في عصر التكنولوجيا الرقمية والتي تعتمد بدرجة كبير على تعظيم الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء وتعلم الآلة وإيجاد حلول للكثير من المشاكل التي تعاني منها المجتمعات المدنية فإنه كثر الحديث عن ضرورة تبني الانتقال للمدن الذكية .. ويظل السؤال: ماذا نعنى بالمدن الذكية ؟ وما هي أهم متطلباتها ؟ ومزاياها ؟ وأهدافها ؟ وهل الأمر مقصور فقط على الفئات المجتمعية التي تمتلك أموالا طائلة ؟ وهل الأمر مقصور فقط على المجتمعات العمرانية الجديدة ولا علاقة لها بالمدن الحالية ؟
في البداية يجب أن نوضح أن " المدن الذكية " هي أي مجتمع يستطيع توظيف التكنولوجيا بصورة تسمح لها بتحقيق بادرة خدماته بصورة إلكترونية تسهل من حياة مواطنيها ومن ثمة فهي تحتاج إلى ابتكار بيئة تكنولوجية توفر الاتصالات السلكية واللا سلكية وتطوير استراتيجية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والخدمات المبتكرة. ويمكن لسكان المدن الذكية الوصول إلى أي تطبيق، والتحكم بوظائف متعددة بلمسة زر.
كما تعتمد الخدمات في المدن الذكية على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثل أنظمة مرور ذكية تدار آلياً، وخدمات إدارة الأمن المتطورة، وأنظمة تسيير المباني، واستخدام التشغيل الآلي في المكاتب والمنازل، واستخدام عدادات للفوترة والتقارير وإيجاد حلول ابتكارية لمشاكل المياه والطاقة والسلامة والنقل بالإضافة للحفاظ على البيئة وحمايتها والتنمية المستدامة فالتكنولوجيا والاتصالات تعتبر مكونا أساسيا لتسريع الحياة الحضرية، وآداة لتمكين الحلول المبتكرة لقضايا مرتبطة باتجاهات التحضر، والتي ستجلب المزيد من البشر للعيش في المدن الكبيرة في المستقبل
ولعل بعضنا سمع عن حسن فتحي ـ المهندس المعماري المصري العالمي والذي كان أول مناد بضرورة مراعاة حقوق وظروف البيئة عند تصميم المدن والمنازل الجديدة وكان بحق محاميا لحلول الطاقة الطبيعية التقليدية في مشاريع رئيسية مجتمعية فى مصر والعديد من دول العالم ، والتي نُفّذت بها مشروعات معمارية متنوعة كانت محل إشادة من المؤسسات والخبراء العالمين والمكاتب الاستشارية ومطوري العقارات ، حيث تميز أسلوب حسن فتحي في المعمار بإعطاء الحياة الطبيعية للبيئة أقصى درجة من الأهمية والاعتماد على الموارد الطبيعية الموجودة بها وجعلها مدنا مستدامة وليست مجرد أراضي لبناء المساكن والطرقات تسير فيها السيارات لمسافات طويلة مؤدية إلى زيادة تلوث الهواء واستهلاك الطاقة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون ومن ثمة فهو بحث رائد في تصميم المدن الذكية بالتقنيات والأدوات التي كانت متاحة في عصره .
وأثبتت التجارب أن للمدن تأثيرا كبيرا على صحة الإنسان وجودة الحياة، إذ أظهرت الأبحاث أن تلوث الهواء يخفض متوسط العمر المتوقع للإنسان في العالم نحو 1.8 أعوام. وتوصف مدن كثيرة اليوم بأنها «غابات خرسانية» لاستيعاب الزيادة السكانية الرهيبة ، ويعاني سكانها من البعد عن الطبيعة، فترتفع معدلات الاكتئاب والتوتر والقلق وسط تفشي جائحة عالمية لاضطرابات الصحة العقلية، مما يسهم في ارتفاع معدلات المرض والإعاقة في مختلف أنحاء العالم.
وأظهرت الأبحاث أن تمضية بعض الوقت في الطبيعة ربما يكون ترياقًا لضغوط الحياة الحديثة، ولذا تزايد الاهتمام بالتصميم " البيوفيلي " ، وهو مصطلح صاغه المحلل النفسي " إريك فروم " في العام 1973، واستُخدم أولًا ليعبر عن حب الكائنات الحية، وطُبِّق لاحقًا في مجال التخطيط الحضري ليعبر عن التصاميم التي تدخل فيها البيئة الطبيعية. ويركز التصميم البيوفيلي على كيفية تفاعل المباني مع العناصر الطبيعية، ومنها الهواء والضوء والماء والنباتات، لتقديم تجربة يشعر فيها الإنسان بالارتباط بالطبيعة. وبالإمكان تعزيز هذه التجربة عبر الاهتمام بتفاصيل التصميم والألوان والمواد والأشكال، ودمج هياكل الأبنية مع محيطها الطبيعي.
ومع ازدياد عدد سكان العالم لما يقرب من 8 مليارات نسمة حول العالم تزايد الضغط على المدن ، مع انتقال الكثيرين من القري إليها نتيجة توافر فرص العمل .. ناهيك عن نمط وجودة الحياة بها، الأمر الذي أدي لا نتشار هذا التقدير المستجد للتصميم البيوفيلي ، وحُدِّدت معايير وشهادات للاعتراف بتطبيق التصاميم البيوفيلية، ومنها ول بيلدينج ستاندرد وليفينج بيلدينج تشالنج ، بفضل فوائده الكثيرة وقدرته على تحسين الظروف المعيشية لسكان المدن، بدءًا من الفوائد الاقتصادية إلى الفوائد الصحية والبيئية ومساهمته في الاستدامة.
ووثّق الخبراء التأثير الإيجابي للتفاعل مع الطبيعة على الصحة العقلية والبدنية، ودور ذلك في تقليل التوتروزاد ذلك جاذبية التصميم البيوفيلي لدى مقدمي الرعاية الصحية وفي أماكن العمل، إذ ثبت أنه يزيد إنتاجية العمال. ويؤكد العلم تأثير النباتات والحيوانات في تقليل مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض، مما يحسّن جودة الهواء ويجعل المباني أكثر استدامة. وثبت أن التصميم البيوفيلي يجذب أعدادًا أكبر من الزائرين إلى الأماكن العامة وأماكن البيع بالتجزئة، ويساهم في الحد من الجرائم.
نؤكد مع اعترافنا بأهمية تحسين الطرق والشوارع لاستيعاب الزيادة السكانية إلا أن تجاهل اللمسة الجمالية والقضاء على الخضرة سيكون له نتائج عكسية كببيرة جدا على نفسية قاطني هذه المدن ولعل ما حدث في حي مصر الجديدة من مذبحة لكل الحدائق والأشجار ، بمختلف أنواعها لصالح توسعة شوارع الحي وعمل العديد من الكباري هو أكبر نموذج صارخ ضد المدن الخضراء .. ناهيك عن أن المعماري المصصم لهذا التطوير لم ياخذ في اعتباره حقوق قاطني هذا الحي الجميل والعتيق من الاستمتاع بالطبيعة التي كان عليها بل إنها لم يحاول حتى عمل لمسة جمالية بعد قيامه بتنفيذ مخطط توسعة شوارع وطرق حي " مصر الجديدة " والذي تحول إلى حي بلا روح وعبارة عن كباري وشوارع وسيارات تسير بها بسرعة بدون أي مراعاة للتركيز على الاندماج مع البيئة الطبيعية واستخدام عناصر المناظر الطبيعية المتوافرة أو على الأقل إعادة التشجير للطرق .
في النهاية نؤكد أنه ربما يكون التصميم " البيوفيلي " جديدًا بالنسبة لكثيرين لكن أسسه ليست جديدة ، فكما أسلفت سابقا ان المهندس المعماري المصري حسن فتحي أول من وضع مباديء وقواعد ضرورة احترام الطبيعة عند بناء المدن منذ اربعينيات القرن الماضي ، وتزداد أهمية استخدام المواد المستدامة في البناء اليوم في ظل البصمة الكربونية الهائلة لهذه الصناعة. وسيزيل التصميم البيوفيلي بعض هذه العقبات في قطاع البناء، وسيدعم رفاهية الذين يستخدمون هذه المساحات عبر دمج مواد طبيعية أكثر استدامة في مختلف الأماكن العامة والخاصة. وسيوفر الشعور بالقرب من الطبيعة، بالاعتماد على التصميم البيوفيلي، دفعة كبيرة لصحة الناس وعافيتهم وقدرتهم على التركيز في المدارس والمستشفيات والمكاتب والمنازل وضمان نفسية أفضل وحياة بسيطة كريمة لهم .