أرض مقابل السلام ... أم مال مقابل الاستسلام

  • بقلم :ايمن صلاح

    منذ أن وقعت مصر معاهدة كامب ديفيد فى السابع عشر من سبتمبر عام 1978 والتى أنهت حالة الحرب بين مصر ودولة اسرائيل ودخلت بهما عصرا جديدا من السلام بعد أن عاد لمصر كامل أراضيها المحتلة فى يونيو من عام 1967، منذ ذلك التاريخ وترفع الولايات المتحدة التى كانت القاسم المشترك الأعظم فى كل خطوات التفاوض من أجل توقيع الاتفاقية بين مصر واسرائيل ومن بعدها كل الدول العربية بعد أن أفاقوا من غيبوبتهم التى جعلتهم يقاطعون الانضمام للتفاوض حول الاتفاقية من أجل استرداد الحقوق المسلوبة والأراضى المحتلة لا لشىء سوى ذلك الفارق الشاسع فى الرؤية واستشراف المستقبل بين زعماء العرب فى ذلك الوقت وبين الزعيم الراحل / محمد أنور السادات الذى كان رحمه الله ذا رؤية ثاقبة وبصيرة نافذة ومفاوضا فذا، منذ ذلك الحين والجميع يرفع شعار "الأرض مقابل السلام" فى اشارة الى حل قضية الشرق الأوسط عن طريق استرداد العرب لأراضيهم المحتلة المتمثلة بالأساس فى الجولان السورية وانشاء الدولة الفلسطينية مع استرداد الفلسطينيين لكافة حقوقهم المشروعة وأراضيهم المسلوبة خاصة القدس الشرقية التى تضم المسجد الأقصى لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية مع حق العودة للاجئين الفلسطينيين فى شتى بقاع الأرض وفى مقابل ذلك يعترف العرب بدولة اسرائيل ويقرون السلام مع اسرائيل ويتعهدون بعدم العدوان عليها مع اقامة علاقات طبيعية معها، كان هذا هو الشعار والمبدأ الذى نادى به الجميع وكان أساسا فى كل مراحل التفاوض اللاحقة والتى ظللنا طيلة الأربعين سنة الماضية ننتظر النتائج المرضية لكلا الطرفين المبنية على اقرار سلام عادل يقر الحقوق ويزيل حالة الاحتقان ووضع اللا حرب واللا سلم الذى عاشت فيه منطقة الشرق الأوسط لفترات طويلة، مرت الأربعون سنة ما بين شد وجذب ومواجهات مسلحة ومقاومة ورفض وشجب وادانة، وأيضا تسويف وتعنت من الجانب الاسرائيلي، الى أن جاء السيد / دونالد ترامب الى حكم الولايات المتحدة الأمريكية ليطل علينا هذه الأيام بشعار جديد ربما بل على الأرجح يجب كل ما سبق من شعارات ومبادىء ويطرح علينا رؤية جديدة لحل المشكلة فيما يسمى "صفقة القرن" ..... وفى واقع الأمر، نحن ليس لدينا حتى الآن مضمون هذا الشعار أو حتى الأسس التى يبنى عليها حل القضية من خلاله الا أن هناك بعض المعلومات المؤكدة التى يمكن أن نبنى عليها لنستنتج على الأقل فى هذه المرحلة ما يمكن أن يشتمل عليه المبدأ أو الشعار من حلول ونستنبط فحوى ومضمون ورؤية الشعار الجديد، ومن المؤكد أن هناك جانب اقتصادى وآخر سياسى لصفقة القرن حيث أعلنت الادارة الأمريكية بالفعل عن بعض بنود الجانب الاقتصادى للصفقة بينما لم تزح الستار أو تشر حتى الآن الى الجانب السياسى من الصفقة ولكن بقليل من امعان الفكر ودراسة سلوك الادارة الأمريكية يمكننا بلا شك استنتاج ما قد يكون عليه الحل السياسى فى صفقة القرن من خلال اطلاعنا على الجانب الاقتصادى منه، ولكى نستنتج ما قد يكون عليه الجانب السياسى علينا أن نطرح أولا ما طرحته الادارة الأمريكية متمثلة فى جاريد كوشنر رجل الأعمال الذائع الصيت فى أمريكا وصاحب المنصب الرفيع فى البيت الأبيض (White House Innovations Director) وهو فى ذات الوقت زوج ابنة دونالد ترامب "ايفانكا ترامب" الذى كشف عن عناصر الجانب الاقتصادى للصفقة متمثلا فى منحة اقتصادية قدرها خمسون مليار دولار (ليست من الخزينة العامة الأمريكية) منها خمسة مليارات دولار لانشاء طريق كشريان اقتصادى يربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة مع منح الفلسطينيين فى الضفة الغربية وغزة منحة قدرها خمسة وعشرون مليار دولار لبناء مشاريع اقتصادية وخدمية، ثم منح دول الجوار معونات أو منح اقتصادية يكون نصيب مصر منها تسعة مليارات دولار والأردن خمسة مليارات دولار ولبنان ما يقارب الثلاثة مليارات دولار، على أن تمنح كافة تلك المعونات والمنح على مدار عشر سنوات .... ولى هنا بعض الملاحظات أولها هو أن أى اتفاق لحل أى قضية دولية يبدأ بالحل السياسى يستتبعه الاجراءات الاقتصادية تماما كما حدث عند توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر واسرائيل الا فى حالتنا هذه "صفقة القرن" حيث بدأت بالجانب الاقتصادى ثم يستتبعها الحل السياسى مما يجعلنا ندرك كيف تفكر الادارة الأمريكية فى هذا الأمر وهو المنهج المالى البحت لا الحقوقى أو مبادىء السلام القائم على العدل، أما ثانى ملاحظاتى فهو عدم ذكر اسرائيل فى "مهرجان المنح للجميع" الذى تضمنته الصفقة وهو ما يدل دون شك عما سيكون عليه الحل السياسى للصفقة والذى سيكون دون أدنى شك أيضا مساندا للجانب الاسرائيلي ومهدرا لكل الحقوق العربية والفلسطينية، وثالث ملاحظاتى هى ان كل المنح المشار اليها لن تمنح دفعة واحدة ولكنها ستكون على مدار عشر سنوات تستطيع من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية استخدام أسلوب "العصا والجزرة" كلما خرجت أى دولة عربية عن السياق الذى ترضى عنه أمريكا تماما كما تفعل مع مصر بين الفينة والأخرى من تهديد بقطع المعونات الأمريكية رغم أنها الزامية كما نصت عليها اتفاقية "كامب ديفيد"، رابع ملاحظاتى هى أن الولايات المتحدة لن تتكلف دولارا واحدا من تلك المنح والمعونات المزعومة ولكنها أعلنت أنها ستكون من خلال دول أخرى متبرعة من خلال شراكات اقتصادية أمريكية فى اشارة من وجهة نظرى الى دول الخليج. هذا هو الاطار الاقتصادى للصفقة وان كنت أميل لتسميته الاطار المالى لا الاقتصادى وعلينا أن نفكر ونمعن التفكير كيف سيكون الاطار السياسى المتوقع للصفقة!! وكيف سيكون مستقبل هذه الأمة ان تمت صفقة كهذه!! وكيف سيكون مستقبل الأقصى ومسلميه!! وكيف سيكون مستقبل القدس ومسيحييه!!

     

    لا أدرى لماذا حينما تم الاعلان عن الجانب الاقتصادى لصفقة القرن تذكرت جدتى عن أبى رحمها الله وقد كانت تتصف بطيبة وسذاجة بالغتين حيث عاشت فى بدايات القرن الماضى عندما كانت البيئة صحية غير مليئة بالتلوث الفكرى والبصرى والسمعى الذى نحياه الآن .... كانت جدتى تمتلك بعض الأفدنة فى الأرياف (طين كما كانوا يطلقون عليه فى ذلك الحين) ورثتها عن أبويها وكانت تقدر هذه الأرض بمقاييس عصرنا الآن بعشرات الملايين من الجنيهات، فأرادت جدتي فى يوم من الأيام تجديد ستائر منزلها ولم تكن تمتلك من المال وقتها ما يكفى فقامت ببيع بضع أفدنة مما تمتلك لتغطية تكاليف الستائر الجديدة، ثم مر زمن وأرادت تجديد سجاجيد المنزل وأيضا لم يكن معها تغطية تكاليف السجاجيد المطلوبة فقامت ببيع ما تبقى مما تمتلك من الأرض لتغطية تلك التكلفة ..... ومرت السنين وتوفيت جدتى وضاعت الأرض وبليت الستائر وفنيت السجاجيد ولم يعد باقيا سوى الذكريات، فهل ستعيش أمتنا العربية فيما هو قادم على الذكريات كما عشنا مع جدتي أم سيكون لهذه الأمة رأى آخر؟!.

     

    أخيرا ... هل تحولنا من "الأرض مقابل السلام" الى "المال مقابل الاستسلام"



    حمّل تطبيق Alamrakamy| عالم رقمي الآن