بقلم: جورج روباس
مدير المنتجات الاستهلاكية والأنظمة الشخصية بالشرق الأوسط، شركة HP
بزغ فجر تقنية الواقع الافتراضي (VR) منذ عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وذلك عندما تم دمجها في أجهزة ألعاب الفيديو، لتُمتع اللاعبين بتجربة غامرة للحواس من خلال الإصدارات المبكرة للصور ثلاثية الأبعاد في الألعاب متعددة المستخدمين. غير أن هذه البداية لتقنية الواقع الافتراضي لم تبلغ المستوى الفائق الذي وعدت به عند ظهورها، إذ اتسمت تجربة المستخدم آنذاك بالمستوى الضعيف. ولم يكد يمر عقدان من الزمان حتى ظهرت موجة جديدة للواقع الافتراضي تقدم تجربة فائقة على صعيد أجهزة الألعاب الإلكترونية المنزلية وأجهزة الكمبيوتر الشخصية، حيث لم يكن هذا السوق الواعد البالغ حجمه مليارات الدولارات سوى بداية لعهد جديد.
ويتجلى تألق الواقع الافتراضي في قدراته القابلة للتطبيق على الصعيد التجاري وإحداث نقلة نوعية في عددٍ من الصناعات التقليدية، إذ لم تعد أهميته تقتصر على مجرد الاستمتاع بتجربة الألعاب، بل امتدت مميزاته لتشمل مجالات العمل وإنقاذ الأرواح وتوفير حلول مبتكرة لصناعات لم تكن متوقعة قبل ذلك. يأتي ذلك في الوقت الذي يتوقع أن يزيد حجم سوق تقنيتي الواقع الافتراضي والواقع المعزّز من 181.59 مليون دولا أمريكي خلال عام 2017، ليلامس 6 مليارات دولار في 2020، وذلك وفقاً لتقديرات مؤسسة "آي دي سي".
تساهم تقنيات أطقم الارتداء على الرأس المبتكرة ومحطات العمل ذات القدرات الهائلة والتطور السريع في التطبيقات، في تحفيز تبني التقنية على امتداد قطاعات الأعمال والمؤسسات الحكومية والترفيه والصناعة على مستوى العالم وفي دولة الإمارات العربية المتحدة. ومن هذا المنطلق، دعونا نلقي نظرة على بعض نماذج الصناعات وحالات الاستخدام التي يُحدث بها الواقع الافتراضي تأثيراً هائلاً بالفعل ويحظى بإمكانات أكثر قدرة لتحقيق التحول.
وشكلّت مسألة إنشاء نماذج مصغرة جزءاً مهماً من طرق قيام المهندسين المعماريين والمصممين والمخططين بتصميم نماذج محاكاة لمساعدتهم على تطوير المباني أو البنية التحتية أو حتى المركبات. ولكن في ظل تزايد المؤسسات المنتشرة في مواقع مختلفة وإجراءات التصميم المتسارعة، فإن الطرق التقليدية أصبحت تفسح المجال للتقنيات الحديثة التي تتيح للمصممين والمهندسين التعاون والتحرك بما يواكب سرعة تصوراتهم.
ويعد تصميم السيارات مثالاً مناسباً في هذا الصدد، حيث تتم الاستعانة بالرسومات الرقمية النموذجية. ويتم تطوير التصاميم بعد ذلك وتحويلها إلى قوالب فخارية كاملة الحجم وهو الأمر الذي يستغرق عدة أشهر، وتستخدم شركات السيارات، مثل "بي إم دبليو" و"أودي" و"بورشه" تقنية الواقع الافتراضي لتصميم وتصنيع سياراتها، وتحفيز النمذجة الأولية بشكل أسرع، ومراجعة وإنتاج نماذج جديدة. ويمكن لفريق العمل، أو حتى المشترين المحتملين، التنقل داخل السيارة، والجلوس في مقعد السائق، والانطلاق في جولات على الطريق، بل وحتى توفير أشكال جديدة من الترفيه داخل السيارة للتخلص من دوار الحركة.
بالنسبة للمستجيبين الأوائل ممن يتعاملون مع المواقف المصيرية، يمكن أن يشكّل التدريب المناسب والخبرة الشعرة الفاصلة بين الحياة والموت. ومع ذلك، فالمسألة أشبه بكونها لغزاً من الأمور المتضاربة التي تؤثر على نفسية المنقذ. فعملية إطفاء حرائق المباني أو التصدي للمواقف الخطرة الأخرى لا يخلو من المخاطر، وهو ما أظهرته نتائج دراسة أجريت في الولايات المتحدة تفيد بأن حوالي 11٪ من جميع وفيات رجال الإطفاء كانت مرتبطة بالتدريب.
وعلى سبيل المساعدة في هذه المواقف، بدأت المؤسسات والجهات المختلفة التحول إلى تقنية الواقع الافتراضي لإجراء تدريب على المواقف العملية وإعداد كوادرها العاملة للتعامل مع المواقف ذات الخطورة على الحياة، وذلك دون أن يُصاب أحد بأي أذى. ويتيح الواقع الافتراضي التدريبات بتكاليف منخفضة في بيئة موجّهة وواقعية، وهو ما يتيح للموظف المستهدف بالتدريب المحافظة على ثباته الانفعالي تحت الضغط، مع تمكين المدربين في الوقت نفسه من قياس ردود الأفعال بشكل واقعي، وتلقين معلومات بشكل أكبر.
في سياق مماثل، فإن الواقع الافتراضي يخلق عالماً جديداً كلياً في مجال الطب. فقد أصبح الآن بإمكان طالب الطب في السنة الأولى إجراء جراحة القلب المفتوح ومعرفة أسرار هذا العضو المعقّد وكيفية إصلاحها، وكل ذلك دون أي خطر على المريض. وتوفر برامج الواقع الافتراضي الخبرة العملية للأطباء تحت التمرين من خلال خبرة عملية. وعلى سبيل المثال، تعد Osso VR بمثابة منصة جراحة مصممة على يد أطباء تتيح للطلبة محاكاة أي إجراء جراحي، بدءاً من عملية زرع القلب إلى استبدال الركبة، وبأعلى قدر من الدقة.
ربما ينطوي الواقع الافتراضي على فوائد أكثر عمقاً بالنسبة للرعاية الصحية للمرضى، والتي تشكل دعماً في حالات إدارة الألم والشفاء العاجل بما يقلل من الإجهاد والألم للمريض ومن التكلفة لمقدم خدمات الرعاية.
وفي هذا الإطار، أعلنت وزارة الصحة ووقاية المجتمع في دولة الإمارات العربية المتحدة العام الماضي عن خططها لإطلاق خدمة إعادة التأهيل باستخدام تقنية الواقع الافتراضي في العلاج الطبيعي لمرضى السكتة الدماغية، والمرضى المصابين باضطراب التوازن، والأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو، ومرضى الشلل الدماغي ومتلازمة باركنسون. وتستخدم إعادة تأهيل بالواقع الافتراضي عمليات المحاكاة الافتراضية لتلبية المتطلبات المختلفة للتدخل الطبي الفعّال لتحقيق أفضل النتائج باستخدام جهاز التحكم في ألعاب الفيديو والاستشعار المتحرك. وقد أثبتت الدراسات العلمية فعالية هذه التقنية المبتكرة في إعادة تأهيل وعلاج العديد من هذه الحالات.\
في ظل تطور الواقع الافتراضي والتقنيات ذات الصلة، لم تعد هذه التقنية تقتصر على حالات الاستخدام الجديدة فحسب، بل سرعان ما تحولت إلى ضرورة حتمية للشركات والحكومات كي تدمجها في كل شيء، بدءاً من تصميم المنتج وتطويره إلى أدوات التدريب والتعاون والعروض التقديمية. والأهم من ذلك، فقد بدأت تقنية الواقع الافتراضي في تحسين تجارب حياتنا الواقعية، ولديها القدرة على إحداث نقلة نوعية في مجموعة واسعة من الصناعات في منطقة الشرق الأوسط.
وبينما تواصل هذه التكنولوجيا التحسّن، فإن عملية تبنيها تتسارع بالقدر نفسه، وتتقارب المسارات بين العالمين الافتراضي والواقعي، وإنني على ثقة بأننا لم ندرك سوى القدر اليسير من إمكانيات وقدرات هذه التقنية الهائلة.