بقلم : سبنسر فينغولد
محرر رقمي في المنتدى الاقتصادي العالمي
لا يزال الاقتصاد العالمي يمضي مترنحاً في حقل ألغام لا ينتهي، حيث الخلافات الجيوسياسية والظروف المالية الصعبة مستمرة في إخضاع الآفاق الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. وبهذا الصدد سلطت توقعات كبار الاقتصاديين الصادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي لشهر يناير/كانون الثاني 2024 الضوء على الطبيعة المحفوفة بالمخاطر للبيئة الحالية، وعلى التحديات والتقلبات التي تواجهها الشركات وصُناع السياسات، مع بقاء النشاط الاقتصادي العالمي بطيئاً.
وفي الواقع، توقع أكثر من نصف المشاركين، 56% ممن شملهم الاستطلاع، أن يضعف الاقتصاد العالمي هذا العام، في حين رجّح 43% منهم ثبات الوضع الحالي أو تغيره نحو الأفضل. وعلى الرغم من تراجع توقعات ارتفاع التضخم في جميع المناطق، وجد الاستطلاع أن النظرة المستقبلية بخصوص النمو الإقليمي تختلف بشكل كبير في عام 2024.
لذا، وفي ظل حالة عدم اليقين الحاصل، ما هو نوع الرياح الاقتصادية المعاكسة التي ينبغي للشركات والحكومات تجنبها هذا العام، وكيف يمكن أن تؤثر التجزئة «الجيواقتصادية» في النشاط العام؟
يتوقع أحدث تقرير عن الآفاق الاقتصادية العالمية للبنك الدولي، أن النمو العالمي سوف يتباطأ إلى 2.4% هذا العام، قبل أن يرتفع إلى 2.7% في عام 2025. ويبدو ذلك بمثابة «هبوط ناعم»، وهو بالتأكيد أمر يدعو للارتياح. ومع ذلك، هناك أربعة أشياء على الأقل يمكن أن تُحدث فارقاً سلبياً في قادم الأشهر.
لدينا الآن حرب جارية في منطقتين بالغتي الأهمية بالنسبة للغذاء والطاقة، أوكرانيا والشرق الأوسط، وسيضر التصعيد في كل منهما بسبل مكافحة التضخم وبآفاق النمو.
وهناك التباطؤ الاقتصادي المفاجئ في الصين. حيث النمو الحالي هو الأبطأ منذ عام 1990، خارج عصر «كوفيد-19»، وقد يضر ذلك بالدول المرتبطة تجارياً مع بكين، وخاصة تلك الموجودة في سلاسل القيمة العالمية.
كما أن الضغوط المالية، وأكبر ارتفاع في أسعار الفائدة العالمية منذ أربعين عاماً حتى الآن، تسببت بجانب من الفوضى التي شهدناها. وعلى الرغم من أن الأسعار آخذة في الانخفاض، لكن ذلك قد لا يكون بالسرعة الكافية بالنسبة لبعض البلدان.
والأمر الآخر هو تجزئة التجارة العالمية وهشاشتها. وهنا تبدو القيود التجارية والاعتماد على التبادلات مع الدول الصديقة فقط أو القريبة من الوطن، وكأنها استجابات سياسية منطقية للمخاوف المتعلقة بالأمن القومي، ولكن مثل هذه التدابير يمكن أن تؤجل الانتعاش الذي تحتاج إليه التجارة العالمية.
في غضون ذلك، سيحدد سوق العمل بشكل كبير التوقعات لعام 2024، سواء من حيث معدلات النمو أو التكنولوجيا. وعندما يتعلق الأمر بأسعار الفائدة، تعد مرونة أسواق العمل مقياساً رئيسياً للسياسة النقدية. ومع قوة السوق الحالية، والحد الأدنى الحاصل من الزيادات في معدل البطالة، يمكن اعتبار ذلك هبوطاً ناعماً نادراً وناجحاً أيضاً من قِبل محافظي البنوك المركزية. ولكن إذا ضعف سوق العمل فجأة، وارتفعت معدلات البطالة من جديد، فهذا يعني أن الهبوط الناعم كان وهمياً.
لقد أدى تصاعد المنافسات الجيوسياسية والاستراتيجية في السنوات الأخيرة إلى تغذية الشكوك تجاه المكاسب الاقتصادية الناجمة عن التكامل العالمي. وعلى الرغم من أن عدم الرضا عن مفهوم العولمة تحول إلى قوة فاعلة، فإن الانتعاش القوي في التجارة عبر الحدود، وتدفقات رأس المال والبشر في السنوات القليلة الماضية، يدل على أن قدراً كبيراً من هذا التكامل لا يمكن عكسه بسهولة.
لذا، يجب أن تعمل خطوط الصدع المتضاعفة للتفتت الجغرافي الاقتصادي على تحويل الحالة الراهنة للعولمة إلى مفهوم أكثر شمولاً يأخذ المصالح الوطنية والإقليمية في الاعتبار، ويتناول التحديات الداخلية التي تواجه البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، ويعزز تنويع التجارة والاستثمار عبر البلدان والمناطق.
لقد وضعت التوترات الجيوسياسية العالم على طريق التفتت الاقتصادي، وهو مسار محفوف بالمخاطر ومكلف للغاية، ليس فقط من حيث تأثيره في النمو الاقتصادي، ولكن أيضاً لأنه يعرض جهود مكافحة تغير المناخ للخطر. فمعالجة حالة الطوارئ المناخية تتطلب زيادة كبيرة في المعروض من المعادن والفلزات، التي يتركز إنتاجها بشكل كبير في حفنة من البلدان. ومع استمرار فرض التدابير الأحادية الرامية إلى تقييد تدفق التكنولوجيا باتجاه المنافسين الاستراتيجيين، سيكون الرد الانتقامي في الغالب قيوداً أكثر على تصدير المعادن والمكونات الأرضية الحيوية التي تتطلبها صناعات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية.
وفي عام 2022، خضع حوالي 30% من الصادرات العالمية من هذه المنتجات القيّمة لقيود التصدير، ارتفاعاً من 5% فقط في عام 2019. صحيح أنه من الممكن تطوير مصادر إمدادات بديلة، لكن إنشاء مناجم ومرافق تكرير جديدة سيستغرق سنوات ويتطلب كميات كبيرة من الاستثمار. والبديل هو تعزيز التعاون متعدد الأطراف، والحد من الصراعات التجارية، ومكافحة التجزئة في إمدادات المواد الخام الحيوية من أجل الحفاظ على صحة الكوكب ومستقبل البشرية.
في ظل التحديات العالمية الكبيرة، ربما يشكل العام الجديد جسراً بين التعافي الاقتصادي بعد الوباء ومسار النمو الجديد، مسار يُعاد رسمه من خلال الاتجاهات القديمة التي كانت في طور التكوين منذ فترة طويلة. وقد يكون أيضاً عام الهبوط الناعم للاقتصاد العالمي، حيث يوفر التيسير النقدي في الولايات المتحدة وأوروبا بيئة حميدة. ونرجو ألا يكون هذا التصور خاطئاً، كما كانت توقعات التضخم العام الماضي. لذا، دعونا نفكر في سيناريوهات المخاطر المحتملة.