بقلم : نادر كيالي
خبير في عالم التكنولوجيا الجنائية
أثار توقيف “بافل دوروف”، مؤسس ومدير تطبيق “تليجرام”، جدلاً واسعاً في عالم التكنولوجيا والمجتمع. حدث هذا التوقيف في فرنسا بسبب اتهامات تتعلق بإساءة استخدام منصته، مما فتح باب النقاش حول مسؤولية قادة شركات التكنولوجيا في مراقبة المحتوى على منصاتهم، وتأثير ذلك على الخصوصية والمساءلة في عصرنا الرقمي.
مع انتشار تطبيقات المراسلة في حياتنا اليومية والمهنية، أصبح حفظ الرسائل ومراجعتها أمراً مهماً في العديد من الحالات القانونية. زاد توقيف دوروف من حدة النقاش حول كيفية عمل هذه التطبيقات، خاصة فيما يتعلق بالتقنيات المستخدمة فيها والتحديات التي تواجهها في التحقيقات الجنائية. من المهم أن يفهم المحققون وسلطات إنفاذ القانون التقنيات الأساسية لهذه التطبيقات والعوائق التي قد تضعها أمامهم.
قبل الخوض في الجوانب التقنية مثل التشفير وتخزين البيانات، علينا أن ندرك أهمية تطبيقات المراسلة في عالمنا اليوم. لم تعد تطبيقات مثل “تليجرام” و”واتساب” و”سيجنال” مجرد وسائل للتواصل الشخصي، بل أصبحت تستخدم بشكل متزايد في العمل أيضاً. هذا الاستخدام الواسع يثير أسئلة مهمة: ما مدى أمان هذه التطبيقات؟ كيف تحمي معلومات المستخدمين أو تمنع الوصول إليها؟ وكيف يؤثر استخدامها على التحقيقات الجنائية؟
للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم الأساس التقني لهذه التطبيقات، والتي صممت لحماية خصوصية المستخدمين، لكنها قد تجعل من الصعب على المحققين الوصول إلى أدلة مهمة في القضايا القانونية.
في قلب معظم تطبيقات المراسلة يوجد التشفير، وهو تقنية تجعل الرسائل غير مفهومة إلا للمرسل والمستقبل. يوفر التشفير الشامل، المستخدم في تطبيقات مثل “واتساب” و”سيجنال”، حماية قوية لخصوصية المستخدم ضد القرصنة والوصول غير المصرح به. لكن في نفس الوقت، يشكل هذا التشفير تحدياً كبيراً للمحققين الجنائيين الذين قد يجدون صعوبة في الوصول إلى الأدلة المهمة دون تعاون المستخدمين أو الشركات المالكة للتطبيقات.
هذه المسألة، حيث التقنية التي تحمي خصوصيتنا يمكن أن تعيق تحقيق العدالة، أصبحت موضوعاً رئيسياً في مناقشات قوانين الخصوصية الرقمية ودور التكنولوجيا في المجتمع. تناقش الشركات والجهات التنظيمية ما إذا كان يجب وضع قيود على استخدام هذه التطبيقات في حالات معينة. لكن ميزات الخصوصية التي توفرها هذه التطبيقات، رغم إمكانية استغلالها في أنشطة غير قانونية، تبقى حقاً مشروعاً في المجتمعات الحرة، مما يجعل أي محاولة للتحكم في استخدامها أو تنظيمها أمراً معقداً.
بالإضافة إلى التشفير، يعتبر التعامل مع تخزين البيانات والنسخ الاحتياطي من الجوانب المهمة في تطبيقات المراسلة. تختلف طريقة حفظ البيانات بشكل كبير بين التطبيقات المختلفة. على سبيل المثال، يقوم “تليجرام” بتخزين الرسائل العادية على خوادم سحابية، مما يسمح للمستخدمين بالوصول إلى رسائلهم من أي جهاز، بينما تُخزن المحادثات السرية فقط على الأجهزة المعنية. في المقابل، لا تقوم تطبيقات مثل “سيجنال” بتخزين الرسائل على خوادمها على الإطلاق وتعتمد فقط على تخزين الجهاز المستخدم.
علاوة على ذلك، هناك تطبيقات تقوم بتقسيم البيانات وتوزيعها على أجهزة مختلفة وخوادم سحابية. قد يجد المحققون أنفسهم مضطرين للبحث عن هذه الأجزاء وجمعها قبل أن يتمكنوا من تحليل المحتوى. قد يؤدي فقدان بعض الأجزاء أو تكرارها أو العبث بها إلى صعوبة في إنشاء تسلسل زمني واضح ودقيق للأحداث – وهو ما يشبه محاولة تجميع قطع لغز بدون صورة مرجعية، مع احتمال أن تكون بعض القطع مفقودة أو تم تغييرها.
في ديسمبر 2021، وافق بنك “جي بي مورغان تشيس” على دفع غرامة قدرها 200 مليون دولار للجهات التنظيمية الأمريكية، بما فيها هيئة الأوراق المالية والبورصات (SEC) ولجنة تداول السلع الآجلة(CFTC)، بسبب السماح للموظفين باستخدام تطبيقات مراسلة غير مصرح بها مثل “واتساب” في التواصل المهني. كانت هذه الغرامة جزءاً من حملة أوسع ضد استخدام وسائل اتصال غير مرخصة، حيث ناقش الموظفون أموراً تجارية حساسة على تطبيقات لا تحتفظ بسجلات مناسبة، مما جعل من الصعب على الجهات التنظيمية مراقبة المعاملات المالية وضمان الالتزام بالقوانين حيث أكدت هذه الغرامات الكبيرة على أهمية الالتزام بقواعد حفظ السجلات الفيدرالية والجهود المتزايدة لضمان الشفافية في الاتصالات.
لم تكن هذه الحالة فريدة – فقد واجهت العديد من الشركات في مختلف القطاعات، خاصة في المجال المالي، عقوبات مماثلة. في أوائل عام 2024، فرضت هيئة الأوراق المالية والبورصات غرامات بقيمة 81 مليون دولار على 16 شركة من شركات وول ستريت لمخالفات مشابهة، مما يؤكد استمرار التركيز التنظيمي على المراسلات غير الرسمية. ومع استمرار الهيئات التنظيمية في فرض غرامات كبيرة على المخالفات، قد نرى توسع هذه الإجراءات في مناطق أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط.
مع تبني الشركات في الإمارات ودول الخليج الأخرى لممارسات مالية عالمية، قد تواجه هذه الشركات تدقيقاً مماثلاً إذا فشلت في تنظيم استخدام تطبيقات المراسلة المشفرة أو غير الرسمية بشكل صحيح فعلى سبيل المثال، أصدرت سلطة دبي للخدمات المالية (DFSA) قواعد تنص على أن الشركات المرخصة يجب أن تحتفظ بسجلات “الاتصالات الإلكترونية” المتعلقة بالمعاملات. التوجيهات المتعلقة بهذه القاعدة تذكر بوضوح ضرورة الاحتفاظ بالاتصالات التي تتم عبر الهواتف المحمولة.
في القطاعات التي تخضع لرقابة صارمة فيما يتعلق بحفظ البيانات والشفافية، قد يكون منع تطبيقات المراسلة أو تقييد استخدامها في الاتصالات غير الحساسة ضرورياً للالتزام بالقوانين. ومع ذلك، فإن منع تطبيقات المراسلة الخاصة بشكل كامل قد لا يكون ضرورياً أو عملياً للعديد من المؤسسات. بل قد يزيد الأمر تعقيداً من خلال دفع الموظفين لاستخدام التطبيقات على هواتفهم الشخصية بدلاً من أجهزة الشركة. يستخدم الموظفون هذه التطبيقات بسبب المزايا التي توفرها، مثل كونها أقل رسمية من البريد الإلكتروني وإمكانية معرفة وقت قراءة الرسالة من قبل المستلم.
نظراً لهذا الواقع، يجب على الشركات اتخاذ عدة خطوات. أولاً، يجب تدريب الموظفين وتوعيتهم بالمخاطر القانونية والعملية المرتبطة باستخدام تطبيقات المراسلة في العمل. ثانياً، يجب على الشركات توفير منصات مراسلة آمنة ومعتمدة من الشركة – مثل Microsoft Teams أو Slack أو Webex – التي يمكن أن تحقق توازناً بين السهولة والأمان. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمنظمات مراقبة اتصالات الموظفين وتحديد حالات عدم الالتزام، وتشجيع الموظفين على تسجيل المحادثات المتعلقة بالعمل التي تتم على تطبيقات المراسلة في السجلات الرسمية للشركة. في النهاية، ستعتمد القرارات على المخاطر والالتزامات القانونية لكل شركة، مع وضع الضمانات المناسبة لتقليل التحديات القانونية المحتملة.
مع استمرار تطور تطبيقات المراسلة، ستستمر التحديات والفرص التي تطرحها في التحقيقات الجنائية في الازدياد. ومع زيادة الاعتماد على هذه المنصات، من المرجح أن يزداد دورها في القضايا القانونية، لكن فعالية هذه التحقيقات ستعتمد على عدة عوامل. ستلعب القوانين المتعلقة بالخصوصية الرقمية التي تتغير باستمرار، وتطور أدوات التحقيق الجنائي، والسياسات والممارسات التي تتبعها شركات التكنولوجيا دوراً مهماً في تشكيل مستقبل التحقيق ات الجنائية الرقمية.
تحقيق التوازن بين حماية خصوصية المستخدم وضمان تحقيق العدالة هو أمر دقيق، وكيفية إدارة هذا التوازن ستؤثر بشكل كبير على الأفراد والمجتمع ككل. وبينما ننظر إلى المستقبل، من الواضح أن نقطة التقاء التكنولوجيا والقانون ستظل مجالاً حيوياً يحتاج إلى اهتمام كبير من قبل الجهات التنظيمية والمحققين على حد سواء.