بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com- منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يبدو أن مؤشر الدولار الأمريكي يواصل فقدان زخمه بصورة متسارعة، ليقترب من مستوى 98.00 خلال تداولات آسيا صباح الأربعاء، في ظل بيئة اقتصادية تعزز من احتمالات إقدام الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة الشهر المقبل. وهذا التراجع لا يعود فقط إلى البيانات الاقتصادية الأخيرة، بل أيضًا إلى المناخ السياسي والجدل المتصاعد حول استقلالية البنك المركزي الأمريكي، وهو ما يزيد الضبابية أمام المستثمرين. ومن وجهة نظري، فإن الأسواق تتحرك الآن بشكل أوضح على إيقاع السياسة النقدية والتصريحات السياسية، وهو ما يجعل حركة الدولار أكثر عرضة للتقلبات المفاجئة، خاصة إذا استمر التوتر بين البيت الأبيض ورئيس الفيدرالي جيروم باول.
فالبيانات الصادرة أمس عن مؤشر أسعار المستهلك الأمريكي أكدت أن التضخم ما يزال تحت السيطرة، حيث جاءت الأرقام متوافقة إلى حد كبير مع توقعات السوق، وهو ما فتح الباب أمام الأسواق لرفع توقعاتها لخفض أسعار الفائدة، وارتفعت احتمالات خفض الفائدة في اجتماع سبتمبر إلى نحو 94% مقارنة بـ85% قبل صدور البيانات، وهذه القفزة في التوقعات تفسر الضغط البيعي المتزايد على الدولار. وفي رأيي، عندما يصل تسعير الأسواق لاحتمال الخفض إلى هذه المستويات، يصبح أي تحرك مخالف بمثابة مفاجأة كبيرة قد تعكس الاتجاه مؤقتًا، لكن ذلك يبقى رهينًا بصدور بيانات أقوى بكثير من المتوقع في الأسابيع القادمة.
كما أن تصريحات كارولين ليفيت عن احتمال رفع ترامب دعوى قضائية ضد جيروم باول أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط المالية، ليس لكونها خطوة عملية قيد التنفيذ بالضرورة، بل لما تحمله من دلالات حول العلاقة بين السياسة النقدية والسلطة التنفيذية. فمن منظور اقتصادي، استقلالية البنوك المركزية تُعد أحد أعمدة استقرار الأسواق، وأي تهديد لها غالبًا ما ينعكس سلبًا على ثقة المستثمرين ويترجم سريعًا في أسعار الصرف. وأرى أن هذا البُعد السياسي قد يكون أكثر تأثيرًا على المدى القصير من البيانات الاقتصادية نفسها، لأنه يصعب قياسه بدقة ولا يمكن التنبؤ بتطوراته بسهولة.
والتضخم في يوليو أظهر تباينًا مثيرًا للاهتمام؛ إذ ارتفعت الأسعار في بعض القطاعات، خاصة الخدمات مثل تذاكر الطيران والرعاية الصحية، بينما تراجعت أسعار الطاقة واستقرت المواد الغذائية. وهذا التوزيع يوحي بأن الضغوط التضخمية ليست عامة وشاملة، بل متركزة في قطاعات محددة، وهو ما يمنح الفيدرالي مساحة للمناورة وخفض الفائدة دون القلق من انفلات الأسعار. وأعتقد أن الفيدرالي سيرى في هذا النمط فرصة للاستجابة لمؤشرات ضعف سوق العمل والتباطؤ الاقتصادي، خاصة إذا ظلت البيانات القادمة ضمن نفس المسار الهادئ.
والأسواق الآن تتعامل مع خفض الفائدة في سبتمبر كأمر شبه محسوم، بل إن بعض المتداولين يراهنون على تخفيضين إضافيين قبل نهاية العام. وبالنسبة للدولار، هذه التوقعات تمثل بيئة سلبية نسبيًا، حيث إن أي تضييق في فارق أسعار الفائدة مع عملات أخرى سيقلل من جاذبية الدولار كمخزن للقيمة أو أداة للاستثمار في أدوات الدين الأمريكية. وبرأيي هذه التحولات في فروق العوائد كثيرًا ما تكون المحرك الرئيسي لاتجاهات السوق متوسطة المدى، أكثر من البيانات اللحظية.
لكن لا يمكن إغفال أن البيانات القادمة، وخصوصًا مؤشر أسعار المنتجين وتقارير سوق العمل، قد تفتح نافذة لتعديل هذه التوقعات. فإذا جاءت هذه الأرقام أقوى من المتوقع، فقد نشهد ارتدادًا محدودًا للدولار، خاصة وأن مراكز البيع المفرطة تزيد من احتمالات حركة تصحيحية. ومع ذلك، يبقى الاتجاه العام للدولار في هذه المرحلة مائلًا للهبوط، وربما يختبر مستويات دعم أعمق، قد تصل إلى 96.37، وهو أدنى مستوى سجله في يوليو، إذا استمر الزخم السلبي الحالي.
لذا أرى أن المخاطر المحيطة بالدولار لم تعد مقتصرة على عامل واحد، بل أصبحت مزيجًا من بيانات معتدلة، وتوقعات سياسات نقدية تيسيرية، وضغوط سياسية. وهذه التركيبة تجعل أي سيناريو صعودي للدولار أكثر صعوبة في المدى القريب، إلا إذا حصل تحول مفاجئ في لهجة الفيدرالي أو جاءت البيانات الاقتصادية القادمة صادمة بقوتها. وحتى ذلك الحين، سيظل الدولار تحت رحمة الأسواق التي باتت ترى في خفض الفائدة أمرًا واقعًا لا مفر منه، ومعه تضعف كل محاولة للعودة إلى المستويات المرتفعة التي سجلها سابقًا.