اكتشف الباحث المصري الدكتور عمر الحلفاوي المحاضر في جامعة ماكماستر في كندا وفريقه البحثي مركبًا يقضي على مقاومة بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية للمضادات الحيوية، ونشرت الدراسة في دورية نيتشر في نوفمبر 2019.
ارتكزت الدراسة البحثية على اكتشاف مركبات جديدة تستهدف الغلاف الخلوي للميكروب، أي الجدار الخلوي والغشاء السيتوبلازمي والعديد من البروتينات الأخرى التي تشكل دروعًا واقية له وتساعده على مقاومة المضادات الحيوية والتصدي للهجمات الخارجية.
تتسبب بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية في آلاف الوفيات حول العالم سنويًا، فهي من أشرس السلالات البكتيرية المسببة للعدوى، وينجم عنها أمراض خطيرة، مثل التهاب الشغاف، والتهاب العظم والنقي، والالتهاب الرئوي الناخر. وصنفتها منظمة الصحة العالمية على رأس قائمة الميكروبات التي يجب دراستها وتطوير عقارات جديدة لها وفقًا للتقرير الصادر عن المنظمة لعام 2017، وخاصةً ذلك النوع من المكورات العنقودية الحساس للميثيسيلين والمقاوم تقريبًا لجميع أنواع المضادات الحيوية من نوع البيتالاكتام.
وقال الدكتور عمر الحلفاوي المؤلف الأول للدراسة في حديث خاص لمرصد المستقبل «اختبرنا نحو 45 ألف مركب لتحديد أكثرها قدرة على استهداف عوامل ضراوة الميكروب، وكان ذلك أشبه بمن يبحث عن إبرة في كومة قش، ووقع اختيارنا في النهاية على المركّب ماك-545496 (MAC-545496) لأنه أظهر نتائج واعدة في قدرته على إضعاف مقاومة البكتيريا.»
يُعد ذلك المركّب نقلة نوعية في عالم المضادات الحيوية، ومع أنه لا يقتل البكتيريا ولا يوقف نموها إلا أنه يضعفها ويشل قدرتها على إحداث المرض، ويأتي هذا المركّب بعد انقطاع دام لثلاثين عامًا عن اكتشاف أي أصناف جديدة من المضادات الحيوية.
يعمل المركّب ماك-545496 على تثبيط بروتين مرتبط بالغلاف الخارجي للبكتيريا يسمى غرا آر (GraR)، وهو جزء من منظومة متكاملة وظيفتها استشعار أي هجمات خارجية تقع على الجدار الخلوي للبكتيريا، سواء كانت هجمات من الجهاز المناعي كالببتيدات الكاتيونية المضادة للمكروبات(CAMPs)، أو هجمات من أدوية المضادات الحيوية، ثم يتصدى لها بقوة ومن دونه ستعجز تلك المنظومة عن التصدي للهجمات.
يشكل البروتين غرا آر عاملًا مهمًا جدًا في المحافظة على ضراوة الميكروب، ويساعده في ذلك بروتين آخر يسمى غرا إس (GraS)، ووظيفته نقل إشارة الخطر إلى غرا آر، ليبدأ الأخير بمواجهة الهجمات الواقعة على الغلاف الخلوي، وذلك من خلال تنظيمه وتحكمه بنحو 60 عاملًا من العوامل الداخلية في الخلية، فيرفع كفاءتها ويعزز أدائها لمجابهة المخاطر التي تحيط بالبكتيريا.
من وظائف بروتين غرا آر مثلًا التحكم بأداء جينات مسئولة عن تخليق بروتينات مهمتها إضافة الحمض الأميني اللايسين إلى غشاء الدهن الفوسفوري(phospholipids membrane) المحيط بخلية البكتيريا. وهو كذلك يوجه البروتينات المسؤولة عن إضافة حمض دي-ألانين لحموض الجدار الخلوي (حُموضٌ تيكوئيكيَّة)، فيزيد من الشحنة الموجبة الموجودة على سطح الخلية.
يعمل مركب ماك-545496 على دعم الببتيدات الكاتيوينية المضادة للميكروبات فيعزز قدرة جهاز المناعة على التصدي للبكتيريا، ويضعف مقاومة المكورات العنقودية الذهبية لأدوية البيتالاكتام إذا أضيف إليها، أي بوجود هذا المركّب سنتمكن من مجابهة بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية باستخدام خط الدفاع الأول من المضادات الحيوية (فئة البنسيلين).
يثبط مركب ماك-545496 قدرة البكتيريا على تكوين الأغشية الحيوية، وهي إحدى الطرائق التي تختبئ بها البكتيريا من المضادات الحيوية، إذ تتكون هذه الأغشية حول أجزاء الجسد الاصطناعية كالمفاصل الاصطناعية وصمامات القلب والقسطرة والعدسات التي تزرع في باطن العين، وهي مزيج من البروتينات والأحماض النووية التي تبنيها البكتيريا حول ذاتها لتبني مستعمرة يصعب جدًا إزالتها، ما يعني أن المركّب المكتشف يعوق تكون هذه الأغشية من البداية.
أوضح الحلفاوي لمرصد المستقبل بأنه وفريقه درسوا تأثير المركب ماك-545496 على خلايا البلاعم (macrophages) التي تشكل جزءًا من جهاز المناعة لدى الإنسان، وذلك لأن بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية تتمتع بقدرة عالية على اختراق تلك الخلايا والاحتماء بها فلا تستطيع المضادات الحيوية الوصول إليها، ما يمكنها من الانتشار في الدم ممتطية تلك الخلايا لتحدث العدوى المزمنة. إلا أن المركّب الجديد أظهر قدرة عالية على اختراق خلايا البلاعم والقضاء على بكتيريا المكورات العنقودية.
أجريت دراسة أخرى للمركب في كائن حي، هو ديدان الشمع -إذ أن مكونات جهازها المناعي تشبه مكونات جهاز المناعة لدى الإنسان. وبينت النتائج زيادة فرص بقاء اليرقات التي عولجت بالمركّب مقارنة باليرقات الأخرى التي لم تخضع للعلاج.
من أهم التحديات التي واجهت الفريق البحثي وفق تصريحات الحلفاوي، اكتشاف المركّب الجديد من بين 45 ألف مركب أجريت عليها الدراسة، وكان التحدي الأكبر تحديد عامل الضراوة الذي يستهدفه هذا المركّب، إذ استغرق ذلك الأمر وقتًا طويلًا، واستمرت الدراسة ثلاث سنوات شارك فيها باحثون من جامعات أخرى، منها جامعة وسترن أونتاريو وجامعة أوتاوا في كندا.
ويعني هذا أن المركب ماك-545496 يفتح الباب لتطوير عائلة جديدة من المضادات الحيوية، وإجراء الأبحاث التي تستهدف مقاومة الميكروبات ذاتها وإضعاف ضراوتها وقدرتها على إحداث المرض بدلًا من استهداف الميكروب مباشرةً وقتله.
تُعد مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية خطر يهدد الصحة العالمية، وتحدث المقاومة في بصورة طبيعية دون تدخل الإنسان، لكن سوء استخدام المضادات الحيوية وانتشارها الواسع يُسرع وتيرة مقاومة الميكروبات، إذ يستخدمها الكثيرون دون وصفات طبية ودون حاجة إليها، وأصبحت منتشرة في أعلاف الحيوانات وفي البيئات الزراعية .
يؤدي تعرض البيئة المستمر إلى مستويات عالية من المضادات الحيوية إلى تحفيز الميكروبات على تكوين مناعة ضدها، وقد تتشكل المناعة في جينات قابلة للانتشار وتتشارك بها الكائنات الدقيقة، فتتطور إلى كائنات ممرضة للبشر يصعب القضاء عليها.
وتتوقع التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية وعن مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة الأمريكية أن يؤدي استمرار انتشار استخدام المضادات الحيوية بلا مسؤولية إلى فقدان 75% من المضادات الحيوية فاعليتها تجاه الميكروبات بحلول العام 2050، وذلك بسبب مقاومة الميكروبات لها، ما ينذر بكارثة صحية وعودة لعصر ما قبل اكتشاف المضادات الحيوية، إذ ستصبح العمليات الجراحية البسيطة، كالولادات القيصرية مثلًا أمر في غاية الخطورة وفقًا لموقع منظمة الصحة العالمية.
حصل الدكتور عمر الحلفاوي على بكالوريوس العلوم الصيدلية من كلية الصيدلة جامعة الإسكندرية، وماجستير الميكروبيولوجيا الصيدلية من قسم الميكروبيولوجيا والمناعة من كلية الصيدلة جامعة الإسكندرية، ثم حاز على الدكتوراه في الميكروبيولوجيا والمناعة من جامعة وسترن أونتاريو كندا، ونال حاليًا على زمالة ما بعد الدكتوراه من جامعة ماكماستر في كندا، ويعمل كباحث بقسم الكيمياء الحيوية والعلوم الطبية الحيوية بكلية العلوم الطبية في جامعة ماكماستر. وحاز على جائزة جيرار رايت لأبحاث الأمراض المعدية لعام 2019 عن بحث اكتشاف مركب ماك 545496 الذي يقضي على مقاومة بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية للمضادات الحيوية، والذي نُشر حديثًا في دورية نيتشر.