كتب : ساره نور الدين
في عصر العولمة والثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، يبرز الاقتصاد الرقمي كواحد من أكثر القطاعات تأثيرًا في الاقتصاد العالمي. فالاقتصاد الرقمي لا يقتصر على استخدام التكنولوجيا في العمليات الاقتصادية بهدف رفع كفاءتها وتحسين تنافسيتها فحسب، بل يعيد تشكيل كيف نعيش ونعمل ونتفاعل في مجتمعاتنا المعاصرة في سياق قطاع واعد عالمياً من المتوقع أن يُسهم العام المقبل بقرابة ربع الناتج الإجمالي العالمي. ويعتمد هذا الاقتصاد على عدة مكونات، منها: البنية التحتية التقنية، والأجهزة، والبرمجيات، والشبكات، بالإضافة إلى الآليات الرقمية التي تتم على شبكة الإنترنت، الأمر الذي يُسهم في خلق فرص اقتصادية جديدة غير مسبوقة.
القسم الأول: ماهية الاقتصاد الرقمي وأثرة على النمو الاقتصادي
القسم الثاني: وضع الاقتصاد الرقمي عالميًا
القسم الثالث: مقارنة بين الدول المتقدمة والنامية في صياغة استراتيجيات الاقتصاد الرقمي
القسم الرابع: وضع الاقتصاد الرقمي محليًا: مؤشرات واحصاءات
القسم الخامس: جهود الدولة المصرية لدعم الاقتصاد الرقمي
القسم السادس: الأفاق المتوقعة للاقتصاد الرقمي عالميًا ومحليًا
ارتبطت التحولات الجوهرية في الاقتصاد العالمي بالثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي شهدها العالم منذ التسعينيات من القرن الماضي، وتحديدًا بعد ظهور الإنترنت، وظهور مصطلح "الاقتصاد الرقمي" الذي أصبح محركا رئيسًا للنمو الاقتصادي؛ حيث ساعدت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في دعم أداء القطاعات الاقتصادية والاجتماعية من خلال مساهمتها في زيادة مستويات الكفاءة عبر تقليل التكلفة والوقت اللازمين لإنجاز المعاملات الاقتصادية والمالية، وتوسيع النفاذ إلى الخدمات الحكومية وخدمات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الزراعية والمالية ومعلومات السوق، ومن ثَم دعم مستويات الإنتاجية والتنافسية. كما ارتبط تنامي دور الاقتصاد الرقمي خلال العقدين الأول والثاني من الألفية الجديدة ببزوغ التقنيات المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة، والتي من بينها: تقنيات الذكاء الاصطناعي، والبيانات الكبيرة، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، وغيرها.
وبالرغم من عدم وجود تعريف موحد متفق عليه للاقتصاد الرقمي، يُمكن الإشارة إلى التعريف المقترح من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بكونه يمثل: جميع الانشطة الاقتصادية التى تعتمد علي استخدم المدخلات التقنيات أو المعززة بها بما فى ذلك التقنيات الرقمية والبنية التحتية الرقمية والبيانات بما في يشمل جميع المنتجين والمستهلكين بما فى ذلك استخدام القطاع الحكومى للمدخلات الرقمية فى جميع الانشطة .
أولًا: تعريف الاقتصاد الرقمي:
استنادًا إلى ما سبق، هناك عدد من التعريفات للاقتصاد الرقمي بما يشمل:
التعريف الأساسي Core Measure: يشمل هذا التعريف الأنشطة الاقتصادية الرئيسة التي تتعلق بمنتجي المحتوى الرقمي، وخدمات الاتصالات، وتقنية المعلومات. وهذا التعريف يعكس جوهر الأنشطة الرقمية والبنية التحتية الأساسية التي تدعمها.
التعريف الضيق Narrow Measure: يتضمن هذا التعريف -إضافة إلى الأنشطة المتضمنة في التعريف الأساسي- الأنشطة التي تتعلق بمدخلات رقمية بشكل خاص، مثل التكنولوجيا الرقمية في مختلف الصناعات. ويركز التعريف الضيق على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات باعتبارها هي الاقتصاد الرقمي.
التعريف الواسع Broad Measure: يشمل هذا التعريف كل ما يتضمنه التعريف الأساسي والضيق، بالإضافة إلى الأنشطة الاقتصادية التي تستفيد بشكل كبير من المدخلات الرقمية دون أن تكون بالضرورة متمركزة حولها. ويغطي التعريف الواسع مجموعة واسعة من الأنشطة التي يمكن أن تستفيد من التكنولوجيا الرقمية.
المجتمع الرقمي Digital Society Measure: هذا التعريف ينظر إلى المجتمع بشكل شامل، ويشمل -إضافةً إلى جميع التعريفات التي سبقت الإشارة إليها- جميع التفاعلات والأنشطة داخل المجتمع التي تعززها الرقمنة، مثل استخدام التكنولوجيا الرقمية في التعليم، والصحة، والحكومة الإلكترونية، والتواصل الاجتماعي، وغيرها. يعكس هذا التعريف الأبعاد الاجتماعية والثقافية للرقمنة وتأثيراتها الشاملة على المجتمعات.
اتصالًا، يرتكز الاقتصاد الرقمي -كما يشير تعريف منظمة "الإسكوا"- بشكل أساسي على تطبيق التكنولوجيات الرقمية في جميع القطاعات والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، ولا يُقتصَر فقط على أنشطة قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حيث يرتكز على عدة مكونات، منها: البنية التحتية التكنولوجية، والأجهزة، والبرمجيات، والشبكات، بالإضافة إلى جميع التعاملات الرقمية التي تتم من خلالها الأعمال التجارية والاقتصادية، ومنها التجارة الإلكترونية، والمعاملات الإلكترونية التي تتم بالكامل على شبكة الإنترنت. وهذا ما يعكس أهمية دور الإنترنت في الاقتصاد العالمي؛ مما حمل البعض على تسمية الاقتصاد الرقمي أحيانًا باقتصاد الإنترنت، أو الاقتصاد الجديد، أو اقتصاد الويب.
ثانيًا: أثر الاقتصاد الرقمي على النمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي
هناك العديد من الدراسات السابقة التي أكدت العلاقة الإيجابية القوية بين الاقتصاد الرقمي وتحقيق النمو الاقتصادي وأهداف التنمية المستدامة. فقد أعد الاتحاد الدولي للاتصالات -إحدى مؤسسات منظمة الأمم المتحدة- سلسلة دراسات النمذجة الاقتصادية القياسية الإقليمية التي قدمت تحليلات اقتصادية قياسية توضح أثر استخدام الإنترنت ذات النطاق العريض الثابت والمتنقل على الاقتصاد، ووضع الأقاليم الجغرافية من حيث الرقمنة وتأثير الرقمنة على الناتج المحلي الإجمالي.أشارت نتائج الدراسة على سبيل المثال إلى أن كل زيادة في مستويات انتشار الإنترنت ذات النطاق العريض في الدول العربية والإفريقية بنحو 10% تسهم في زيادة متوسط نصيب الفرد من الناتج بنسبة تقارب 2.5%.
استكمالًا، فقد أشارت إحدى الدراسات التي استخدمت نماذج بارو للنمو الداخلي لتحليل العلاقة بين مستويات انتشار الإنترنت ذات النطاق الضيق ومعدل النمو الاقتصادي في 120 دولة متقدمة ونامية خلال الفترة (1980 - 2006) إلى أن كل زيادة في الإنترنت ذات النطاق الضيق تساعد على رفع معدل النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة بنحو 1.2 نقطة مئوية، وبنحو 1.4 نقطة مئوية في الدول النامية.
في حين خلصت دراسة أُجريت على 26 دولة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي خلال الفترة (2003 - 2009)، باستخدام نموذج غير خطي شمل 87 متغيرًا، إلى أن كل زيادة في مستويات انتشار الإنترنت ذات النطاق الضيق بمقدار عشر نقاط مئوية تساهم في زيادة نمو متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3.2%.
كما خلص عدد من الدراسات إلى أن المستويات المتزايدة من استخدام الإنترنت عريض النطاق يرتبط بمكاسب أكبر في النمو الاقتصادي مقارنة بالإنترنت ضيق النطاق. على سبيل المثال، تشير إحدى الدراسات التي شملت 25 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية باستخدام نماذج البيانات المقطعية للفترة (1996 - 2007) إلى أن إدخال شبكة الإنترنت ذات النطاق العريض ساعد في زيادة معدل النمو الاقتصادي بما يتراوح بين 2.7 و3.9 نقاط مئوية، مقارنة بالمستويات المسجلة سابقًا.
وفي السياق ذاته، أشارت الدراسات الصادرة عن منظمة التجارة العالمية إلى أن التقدم في التحول الرقمي من شأنه أن يساعد على زيادة معدلات نمو التجارة الخارجية للدول النامية بنحو 2.5 نقطة مئوية خلال الفترة (2020 - 2030)، بما يسهم في رفع معدلات النمو وزيادة مستويات التشغيل وخلق المزيد من فرص العمل.
كما تشير العديد من الدراسات والتقارير إلى العلاقة الإيجابية بين التحول الرقمي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وبناء على ذلك، تعمل لجنة الإنترنت ذات النطاق العريض التابعة للاتحاد الدولي للاتصالات -إحدى المؤسسات التابعة للأمم المتحدة- على تشجيع الحكومات في جميع أنحاء العالم على وضع استراتيجيات وطنية لزيادة مستويات انتشار خدمات الإنترنت ذات النطاق العريض في الدول النامية لنحو 65% من سكان هذه الدول بتكلفة مقبولة عالميًّا تقدر بما لا يزيد على 2% من متوسط دخل الفرد، وذلك بحلول عام 2025؛ بهدف المساعدة في تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة 2030.
على الرغم من صعوبات تقدير حجم الاقتصاد الرقمي على مستوى العالم، تشير تقديرات المؤسسات الدولية إلى أن مساهمته في الناتج الإجمالي العالمي قد سجلت قرابة 15.5% في عام 2016 بحسب تقديرات البنك الدولي، فيما يتوقع أن يساهم بنحو 26% من الناتج الإجمالي العالمي في عام 2026، بحسب تقديرات البنك الدولي.
تتباين بشكل كبير مساهمة الاقتصاد الرقمي عبر دول العالم المختلفة، ففي الوقت الذي ترتفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى قرابة 40%، يسهم الاقتصاد الرقمي بنحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي لكل من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وألمانيا مجتمعةً، فيما تنخفض مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات دون ذلك في العديد من الدول النامية.