بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
شهدت أسعار النفط الخام الأمريكي (WTI)، انتعاشًا ملموسًا خلال الجلسة الآسيوية المبكرة لليوم الأربعاء، حيث ارتفع السعر إلى حدود 58.72 دولارًا للبرميل. وهذا الصعود يأتي في وقتٍ تتراجع فيه حدة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بالتوازي مع انخفاضٍ جديدٍ في مخزونات الخام الأمريكية، ما أعاد إلى الأسواق قدرًا من التفاؤل الحذر بشأن مسار الطلب العالمي على الطاقة. غير أن هذا الانتعاش، وإن بدا مبشرًا في الظاهر، يبقى محاطًا بجملة من التحديات البنيوية التي قد تحدّ من استمراريته على المدى المتوسط.
فتاريخيًا، كان للعلاقة التجارية بين الولايات المتحدة والصين تأثير مباشر على مسار أسعار النفط، إذ يشكّل هذان الاقتصادان معًا أكثر من ثلث الاستهلاك العالمي للطاقة. وعليه، فإن أي بادرة تهدئة أو تصعيد في هذا الملف تنعكس فورًا على الأسواق. ففي الأسبوع الماضي، أثار تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة بنسبة 100% على الصين موجة قلق في الأسواق، سرعان ما تراجعت بعد أن عاد ليُعلن أن هذه الرسوم غير مستدامة، معربًا عن استعداده لتحسين العلاقات مع بكين. وهذا التبدّل في اللهجة السياسية ساهم في تهدئة المخاوف ودفع المتداولين إلى إعادة بناء مراكزهم الشرائية في سوق النفط، استباقًا لاحتمال التوصل إلى تفاهم اقتصادي يحدّ من مخاطر التباطؤ العالمي.
ومن جهة أخرى، شكّل تقرير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) حول المخزونات عاملاً داعمًا إضافيًا للأسعار، إذ أظهر انخفاضًا قدره 2.98 مليون برميل في الأسبوع المنتهي في 17 أكتوبر، مقابل زيادة بلغت 3.5 ملايين برميل في الأسبوع السابق. وهذا الانخفاض، وإن كان محدودًا نسبياً، يعكس تحسّنًا تدريجيًا في التوازن بين العرض والطلب في السوق الأمريكية، خصوصًا في ظل موسم السفر الداخلي وزيادة معدلات تشغيل المصافي. إلا أن الصورة العامة ما تزال مختلطة، إذ يشير معهد البترول الأمريكي (API) إلى أن الانخفاض الإجمالي في المخزونات منذ بداية العام لم يتجاوز 2.4 مليون برميل، مما يعني أن فائض العرض لم يُستوعب بعد بشكلٍ كامل.
واللافت أن التفاؤل الحالي في السوق النفطية لا يستند فقط إلى التهدئة التجارية أو تراجع المخزونات، بل يمتد ليشمل أيضًا التوقعات المتزايدة بتوجه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نحو مزيد من التيسير النقدي. فاحتمال خفض أسعار الفائدة في الاجتماع المقبل للبنك، بنسبة تصل إلى 25 نقطة أساس، يلقى ترحيبًا من المستثمرين الذين يدركون أن سياسة نقدية أكثر مرونة قد تُضعف الدولار الأمريكي، ما يجعل السلع المقومة به – وعلى رأسها النفط – أكثر جاذبية للمستوردين الأجانب. وبهذا المعنى، فإن ضعف الدولار يمثل عاملاً داعمًا لأسعار النفط، ولو بصورة غير مباشرة.
لكن في المقابل، لا يمكنني إغفال العوامل الهيكلية التي تُقيد قدرة السوق على الصعود المستدام. إذ تشير وكالة الطاقة الدولية إلى احتمال تسجيل فائض عالمي في المعروض يقارب 4 ملايين برميل يوميًا بحلول عام 2026، نتيجة استمرار خطط أوبك وحلفائها لزيادة الإمدادات التدريجية. كما أن ارتفاع الإنتاج الصيني في الأشهر الأخيرة يعيد طرح سؤال محوري حول قدرة السوق على امتصاص هذا الفائض، خصوصًا في ظل تباطؤ الطلب الصناعي العالمي. فقد بلغت معالجة المصافي الصينية نحو 62.7 مليون طن من الخام في سبتمبر، وهو أعلى مستوى منذ عامين، بينما تشير التقديرات إلى أن الواردات الصينية تجاوزت احتياجاتها الفعلية بنحو 570 ألف برميل يوميًا، ما يعزز مخاوف تكدس المعروض.
وهنا، يبدو لي أن ارتفاع النفط الخام فوق 57.50 دولارًا يعكس في جوهره ردة فعل نفسية أكثر من كونه تحولاً أساسياً في اتجاه السوق. فالمستثمرون يسعّرون التهدئة المؤقتة بين واشنطن وبكين، ويُراهنون على خفضٍ وشيكٍ للفائدة، لكنهم في الوقت ذاته يظلون على وعي بأن أي انتكاسة في المفاوضات التجارية أو عودة التصعيد الجمركي كفيلة بأن تمحو هذه المكاسب بسرعة. كما أن أي تقرير سلبي عن مستويات المخزون المقبلة أو مؤشرات تراجع في الطلب الآسيوي يمكن أن يعيد الضغط على الأسعار، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء الذي عادةً ما يشهد تقلبات حادة في معدلات الاستهلاك.
ومن وجهة نظري، يمكن القول إن النفط في المرحلة الحالية يتحرك في نطاق توازني هش، تتنازع فيه قوى الدعم قصيرة الأجل – مثل التهدئة التجارية والتيسير النقدي – مع ضغوط العرض الزائد والتباطؤ الاقتصادي. ومن المرجح أن يبقى النفط الخام الوسيط ضمن نطاق تداول يتراوح بين 55 و59 دولارًا خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ما لم تطرأ مفاجآت سياسية أو بيانات اقتصادية مفصلية. فاختراق مستوى 60 دولارًا يحتاج إلى محفزات أقوى، ربما في صورة اتفاق تجاري شامل أو خفض إنتاج جديد من أوبك+. أما دون ذلك، فسيظل الاتجاه العام عرضيًا يميل إلى الهبوط التدريجي كلما تزايدت الإشارات على تباطؤ الطلب العالمي.
لذا يمكن اعتبار الصعود الأخير إشارة على مرونة السوق النفطية وقدرتها على التفاعل الإيجابي مع التطورات السياسية والاقتصادية، لكنه لا يشكل دليلاً على بداية دورة صعودية جديدة. فالعوامل الأساسية لا تزال غير داعمة بما يكفي لتغذية موجة ارتفاع طويلة الأمد. وسيبقى العامل الجيوسياسي – المتمثل في العلاقة بين واشنطن وبكين – المحدد الأكثر تأثيرًا في المرحلة القادمة، إذ إن أي انفراجة حقيقية في هذا الملف كفيلة بإعادة التوازن للأسواق وتعزيز الثقة بالاقتصاد العالمي، بينما سيؤدي أي تصعيد جديد إلى تقويض هذه المكاسب الهشة سريعًا.
وعليه، يبدو لي المشهد النفطي الراهن أقرب إلى حالة هدوء ما قبل اختبار الاتجاه؛ أي هدنة مؤقتة بين تفاؤل الأسواق ومخاوف الاقتصاد الحقيقي. وبينما يحتفل المضاربون بعودة الأسعار إلى مشارف 58 دولارًا، فإن رايي الأكثر حذرًا يتلخص في أن ذلك ارتفاعًا تكتيكيًا قصير الأمد لا أكثر. والمستقبل القريب سيحسم الاتجاه، لكن المؤكد أن النفط، كعادته، سيبقى مرآة حساسة لمزاج العالم واقتصاده، يتحرك صعودًا حين تسود الثقة، ويهبط حين تعود السياسة لتخيم بظلالها الثقيلة على الأسواق.








