نبضات
بقلم : خالد حسن
رغم مرور نحو 50 عاما على حرب العاشر من رمضان ، الموافق السادس من أكتوبر 1973 ، والانتصار الساحق للقوات المسلحة المصرية على العدوان الإسرائيلي إلا أنه ما أحوجنا هذه الأيام لاستلهام قوة الروح والعزيمة وإرادة التحدي والإبداع في طرح الحلول التي تجلت في أروع صورها خلال هذا الانتصار العسكري التاريخي لاسيما أن هذه الأشياء موجودة بداخل كل واحد منا، ولكن فقط تحتاج منا إلى استدعائها وإحيائها وتفعيلها مرة أخرى .
ولعل من أهم ما أكده انتصار شهر رمضان هو امتلاك المقاتل المصري لقدرة كبيرة في الإبداع لتطويع وعظيم الاستفادة من الأدوات والتكنولوجيا، البسيطة التي كانت متاحة له ، كانت أكبر مفاجأة أربكت كل حسابات العدو الإسرائيلي وجعلته يعيش في كابوس لم يخطر له حتى في أسوأ أحلامه .
والجميع يعلم أنه لولا التدخل الأمريكي المباشر لصالح العدوان الاسرائيلى ، بداية من يوم 11 أكتوبر 1973 عندما أعلنت جولدا مائير ـ رئيس الوزراء الإسرائيلية .. أنقذوا إسرائيل .. لكانت الهزيمة والخسائر الإسرائيلية اكبر بكثير مما حدث حيث أدى هذا التدخل الأمريكي إلى إبطاء وتيرة العمليات القتالية المصرية كما اكد المحللون العسكريون أنه لم تكن المفاجأة الكبرى في حرب أكتوبر 73 " المجيدة " هى قرار الحرب ، رغم أنه أخذ الجميع على غير توقع أو انتظار وبالرغم من ضخامة الحدث وقوة الزلزال وبالرغم من كل التداعيات المتسارعة التي نجمت عن ملحمة العبور ، إلا أن المفاجأة الحقيقية في كل ذلك كانت ولا تزال قوة وصلابة وإبداع الإنسان والمقاتل المصري وحبه لوطنه واستعداده الكامل للدفاع عن ترابه الوطنى وتقديم روحه ودمه فداء لكل حبة رمل من أرضه الطاهرة ، ورفضه كل محاولات إرغامه على القبول بالهزيمة والتسليم بالعجز عن المواجهة والرضا بالواقع .
وفي اعتقادي أنه من أهم المفاجأت أيضا هى انتفاضة المقاتل المصري ونهوضه من كبوته في مدة وجيزة من عمر الزمن ، لم تتجاوز السنوات الست رغم توقع الأعداء بأنه يحتاج لعشرات السنوات للخروج من المحنة ، فالمقاتل المصري على جميع المستويات عندما أتيحت له الفرصة للقتال أثبت قدرته على المواجهة حتى تحت ظل الاحتلال وظهرت واضحة للعالم وإسرائيل عندما نجح مهندس مصري في ابتكار حل تقني لتحطيم خط باريف الحصين باستخدام تكنولوجيا قوة الدفع المائي وهو ما لعب دورا محوريا في تحديث التكنولوجيا العسكرية على الصعيد العالمي في فترة ما بعد الحرب وتعديل الكثير من النظريات العسكرية .
كذلك تجلت ابداعات حرب العاشر من رمضان في جميع المواقع على طول الجبهة بداية من قدرة وكفاءة المقاتل المصري ، في استخدام الأدوات التكنولوجية المتاحة واستخدام قوة المياه للقضاء على خط بارليف الحصين آنذاك وتطويعها لتحقيق اهدافه ، وكذلك قيام الطيارين المصريين بالتحليق على مستوى منخفض للغاية للهروب من الرادار وتحقيق 90 % من أهداف الضربة الجوية الأولى وبخسائر 2.5 % فقط ، حيث أدى هذا النجاح إلى إلغاء الضربة الجوية الثانية ، كما لفرقة الأسلحة الميكانيكية قصة إبداع في مد الجسور لعبور قناة السويس في وقت زمني قياسي على كل المستويات .
ما أحوجنا جميعا هذه الايام ، ولاسيما الشباب والأطفال الذين لم يعاصروا حرب رمضان المجيدة ، أن نستعيد جميعا ذكريات هذا الانتصار والتعلم من دروسه الكثيرة وأهمها ان الايمان بقدراتنا على الإبداع وطرح الحلول الجديدة والتدريب والتأهيل ووضع الخطط الاستراتيجية لخداع العدو ، أى الأخذ بالأسباب ، ثم التوكل على الله يؤدى إلى تجلي قدرات الإنسان المصري وتحقيقه المعجزات حتى في أحوج وأشد الظروف صعوبة .
في تصوري أن قدرة وإبداع الإنسان والجندي المصري في حرب أكتوبر 73 ما زالت تثير قادة إسرائيل من العسكريين بعد 50 عاما من انتصار حرب أكتوبر التاريخي وعلى أعلى مستوى حيث حذر إيهود باراك ـ وزير الدفاع الإسرائيلي السابق ، القوات الإسرائيلية من الاستسلام لحالة السلام الخادع وهو يؤكد أن حرب العاشر من رمضان تستوجب اليقظة الكاملة والحفاظ على الروح القتالية للجنود ، وتبدو في نبرة كلماته تقديره لخطورة حرب أكتوبر التي هزمت نظرية الجيش الذي لا يُقهر فحرب أكتوبر كانت إحدى التجارب المحورية في تاريخ إسرائيل وأحدثت انقلابا في السياسة الإسرائيلية لدرجة أن المؤرخين أطلقوا عليها الحرب الكبرى الأخيرة وهى الحرب التي مهدت طريق السلام ، فالحرب حطمت للاسرائيليين كل الأساطير التى نشأوا عليها .
كما أدركت إسرائيل بعد الحرب انه ليس بمقدورها توسيع رقعتها الجغرافية من خلال الغزوات العسكرية كما حدث فى عام 1967 وأظهرت لغالبية الاسرائيلين أنه ليس بأمكانهم التوسع أكثر ، وكما قال الرئيس السابق حسني مبارك ، قائد الضربة الجوية الساحقة ، حرب أكتوبر 73 كانت نقطة تحول كبيرة في تاريخ إسرائيل أثرت على الحياة الاجتماعية والنظام السياسى ،فبعد مرور كل هذه السنوات على تلك الحرب ما زالت حالة القلق والتوتر يعانى منها المجتمع الإسرائيلي حتى أنه يؤكد قادة الجيش الإسرائيلي قال : لابد أن يبذل الجيش الإسرائيلي كل ما بوسعه لتجنب مفاجأته كما حدث في عام 73 .
كما عكست حرب السادس من أكتوبر ارادة سياسية عربية فى المقام الأول وعبر الرئيس البطل الراحل محمد انور السادات ، بطل الحرب والسلام ، عن هذا صراحة بقوله: ان الشعور القومى العربى أدى دورا أساسيا فى حرب أكتوبر فالتفاف الدول العربية حول دول المواجهة وماقدمته من تأييد معنوى ومادى واستخدامها لسلاح البترول كل ذلك أسهم بلا شك فى تحقيق النصر فالملوك والرؤساء العرب ومن خلفهم شعوبهم كانوا سندا فى المعركة وربما كان من أهم نتائج حرب أكتوبر خروج القومية العربية من حيز الشعار الى حيز العمل وأصبح العالم كله يعترف بالوجود العربى والدور العربى وقدرة الانسان العربى على ابداع الحلول التكنولوجية وتعظيم الاستفادة من قدراته العقلية والتنظيمية وذلك مع استخدام السعودية ودول الخليج لسلاح البترول وقيام الجزائر بمساعدة مصر ومدها بالاسلحة الروسية وكتيبة كامل من الجنود والضباط .
ولعله من المهم ان نؤكد ان روح الابداع المصرى لم تكن وليدة حرب الـ 10 من رمضان فقط وانما منذ فجر التاريخ ونجد أن المصرى بطبيعته إنسان مبدع فهو اول من عرف العالم كيف الكتابة وحساب الوقت وعلوم الفلك والفضاء والطب والتحنيط وتكنولوجيا الهندسة والزارعة والكثير من العلوم التى مازال العالم يقف أمامها إجلالا واحتراما لعقلية الإنسان المصرى المبدع منذ الأزل .
نؤكد أن النصر لم يتحقق بالعدة والعتاد ولكن بالعلم والأيمان وتطبيق استراتيجية ابتكار الحلول الجديدة ..وتحية عرفان بالجميل لجميع أبطالنا وشهدائنا الذين ضحوا بأرواحهم الذكية لاستعادة الأرض وكرامة المصري ودعوة إلا ننسى ذكرى ودروس حرب أكتوبر حية فى وجداننا جميعا .
&