بقلم : خالد حسن
الحمد لله الذي أعلمنا جميعا أننا ميتون .." إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ " وأنها الحقيقة الوحيدة التي نعلم أن مصيرنا إليها ، مهما طالت بنا الأعمار، وأخذت منا السنون وشغلتنا أهواء الدنيا ، وخفف بهذا آلام الفراق والرحيل ووحشة الاشتياق والبعد .." كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " .
يا إلهي تتشتت مني العبارات وتتوه مني الكلمات ففي مثل هذا اليوم منذ 40 يوما ، تحديدا، رحلت أمي عن الحياة الدنيا إلى دار الحق؛ فرحلت معها أنشودة الحياة ، والحنان بلا سبب ، وافتقدنا الحضن الدافئ ، ولمسات اليد الطيبة ، والقبلة الحقيقية ، والدعوة الصادقة .. فرحمة الله عليك يا أمي، وأسكنك الرحمن الرحيم بالفردوس الأعلى من الجنة .." مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا " .
والدتي ..هذا المعين الذي لا ينضب من الحلم اللا نهائي، والكلمات العذبة ، والصبر الجميل والعفو بلا مقابل، والكرم بلا حدود الذي يجعلك دائما تشعر بقوة نفسية ، داخلية ، لا تضاهي أي قوة في العالم .. فأنت تعلم أن هناك من يخاف عليك، ويدعو لك دون انتظار الرد منك، وأن هناك من سيقف بجانبك في كل الأحوال ليرشدك إلى الأفضل .. " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ".
والدتي .. ما زلت أتذكر أحاديثك التلقائية معي قبل نزولي في الصباح ، وأنا طفل وشاب ، وأحاديثنا الخاصة فما زال صوتك في أذني، وكلماتك الصادقة والعميقة ، في نفس الوقت، والتي كانت بمثابة مصابيح تنير لي طريقي وتواسيني في أحلك الأوقات، والسد المنيع الذي نحتمي به.. فكنت أنت جنتي في الدنيا وحكايتي من البداية للنهاية .
والدتي .. معلمتي ستظل ذكراك في عقلي وقلبي مع إدراكي لحكمة ربي أن بر الوالدين مقدم علي أفضل الأعمال، ويكفي تكريما ما قاله رب السموات عن الوالدين .." وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـًٔا وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا" .. فبر الوالدين يعتبر من العبادات المقربة للقلب والتي ترفع وتبارك حياة الأبناء فالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في بر الوالدين ، سواء في حياتهما أو بعد مماتهما، جعلت بر الوالدين يضاهي باقي العبادات كالصلاة والصيام بل إنه مقدم علي الجهاد في سبيل الله. فاللهم اغفر لجسد حملنا تسعة أشهر وهنًا على وهن .. " ووَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ".
كما أوصى- سبحانه - وكرر بالإحسان للوالدين .. " وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" .. وأن نطيعهما ونكرمهما ونستجيب لمطالبهما ، التي يرضاها الله، ، حيث جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله، لأن أحق الناس بالاحترام والطاعة بعد الله- عز وجل- اللهم أجعلنا ممن فازوا برضاء أمهم عنهم فى حياتها ومماتها .
والدتي .. لم أجد حضنا كحضنك الحنون ، وقلبا كقلبك النابض ، وروحا كروحك النقية، وابتسامة كابسامتك الجميلة ، ووجها كوجهك المنير ، وشخصية كشخصيتك الطاهرة ، وحبا كحبك الصادق، وحنانا كحنانك السرمدي ، وصبرا كصبرك، وانكارا للذات كما كنت تفعلين انت .." وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "
والدتي .. يا روح الحياة لم ترتاحي حتى ينام ، كل من في البيت ، ولا تفرحي حتى تزول عنا الأحزان ، ولم تطمئني حتى تتأكدي أننا فى أمان، وتخفي عنا كل ما كنت تعانينه من آلام ، وكنت دائما النفس الراضية بقدر وقضاء الله .. " لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " .
والدتى .. كانت بالنسبة لي هي أيقونة السلام النفسي ، ومصدر الهدوء الروحي ، ومخزون السكينة ، ونبع المحبة الذي لا ينضب ، والصمت الجميل ، والكيان الحصين .." وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا " .
فيا رب السماء كما أسعدتنا وهي معنا فأسعدها وهي عندك في الجنة.. واجعل دعاء أمي لنا من نصيبنا، واهدنا به إلى طريق الخير يا رب .. ونعاهدك يا أمي أننا لن ننساكِ وسنستمر علي ما كنت تحبينه من صالح الأعمال والأفعال وسنبقي على محاسنك وذكراكِ بالدعوات والصدقة لروحك الطاهرة .
وسيظل لساني يردد .. اللهم بأسمك الأعظم وجميع أسمائك الحسنى اعف واغفر وارحم امي وجميع أمواتنا واجمعنا بهم في جنة عرضها السماوات والأرض عند حوض نبيك العدنان المصطفي " محمد " صلي الله عليه وسلم .