كتب : أمير طه
هل يستطيع فريق صغير في دوري البيسبول أن يفوز ببطولة العالم خلال 5 سنوات؟ عند شركة الرقائق اليابانية الناشئة المدعومة من الدولة "رابيدوس" (Rapidus) طموح كبير يشبه ذلك.
في بلد تنتج حالياً أشباه موصلات بتكنولوجيا 40 نانومتراً، وضعت الشركة التي يبلغ عمرها عامين هدفاً يتمثل في القفز على أجيال من الابتكارات، بإنتاج الرقائق بتكنولوجيا 2 نانومتر بحلول عام 2027، وهي أحدث تكنولوجيا لإنتاج الرقائق وأكثرها تقدماً.
من السهل أن نستخدم مجموعة من البيانات وأن نربط بينها ونصنع منها حجة تزعم أن جهود الشركة منافية للعقل وسخيفة تماماً. إلا أن وضع "رابيدوس" أهدافاً لنفسها بالغة الصعوبة بث الحيوية في القطاعين العام والخاص في اليابان، ودفعهما إلى التعاون على نحو لم نشهده منذ أجيال، وحول هدف استراتيجي وحيوي من أهداف الأمن القومي.
ومن شأن ذلك أن يجعل من نجاح الشركة الناشئة مدعاة للفخر الوطني العام، وسبباً من أسباب التفاؤل بقدرتها على تحقيق هدفها بنجاح.
نقص هذه المكونات شديدة الأهمية أثناء فترة الجائحة سلط الأضواء على أهمية صناعة أشباه الموصلات بالنسبة للاقتصاد العالمي. وأدى تصاعد التوترات الجيوسياسية، ولاسيما تربص بكين تجاه تايوان، معقل ومركز إنتاج الرقائق الإلكترونية، إلى اعتبار التصنيع المحلي لها ركناً من أركان الأمن القومي من واشنطن إلى طوكيو. وترتب على ذلك تشكيل تحالف من ثمان شركات يابانية، بدعم من الحكومة، لتأسيس شركة "رابيدوس" في 2022 بهدف استعادة مجد البلاد في مجال التكنولوجيا.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت اليابان موطناً لأكثر من 50% من صناعة أشباه الموصلات في العالم، والآن لا تتجاوز حصتها نسبة 10% من هذه الصناعة. فلم تتحول البلاد إلى الإنتاج الأكثر تقدماً في عصر الكمبيوتر الشخصي في حقبة التسعينيات، مما جعل إنتاجها الحالي متخلفاً تكنولوجياً بنحو 10 سنوات مقارنة مع المنافسين.
وفي الآونة الأخيرة، تسبب النمو الهائل في قطاع الذكاء الاصطناعي وما تلاه من طفرة في مراكز البيانات في ظهور طلب لا يشبع على الرقائق الأكثر تقدماً.
كل هذا يدعم شعوراً جديداً بالضرورة العاجلة بالنسبة لشركة "رابيدوس" لتصبح على مستوى اللحظة. وقد ترددت عبارة "الفرصة الأخيرة" هنا وهناك بين كثير من المرتبطين بها، ومن بينهم رئيس مجلس الإدارة تيتسورو هيغاشي، والحكومة اليابانية، وحتى المدير العام في شركة "كاجيما كورب" (Kajima Corp) الذي يشرف على بناء مصنعها في جزيرة هوكايدو.
"كاجيما كورب" هي واحدة من أسلحة "رابيدوس" السرية. فهي لم تتوقف عن العمل ليوم واحد خلال فصل الشتاء القارس في الجزيرة الثلجية الواقعة في شمال اليابان، ولديها خطة طوارئ لكل سيناريو تقريباً لضمان التزام البناء بالمواعيد النهائية.
قادت "كاجيما كورب" بهدوء إنشاء وتطوير ما لا يقل عن 10 مصانع للرقائق على مدى العقد الماضي، بما في ذلك مصنع شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات "تايوان سيميكونداكتور مانيفاكتشرينغ" في كيوشو، وهو ما يتناقض تناقضاً صارخاً مع تأخر بناء مصنع الشركة في الولايات المتحدة.
السؤال المهم الذي يحيط بطموحات شركة "رابيدوس" يتعلق بمدى قدرتها على جذب العملاء. فقد تتردد الشركات في تقديم طلبات شراء مع شركة ناشئة لم تثبت جدارتها بعد. لكن تحالف الشركات الذي يقف وراء إطلاقها –ومن بينها مجموعة "سوني كورب" و"تويوتا موتور"– يمكن أن يكون أول عملائها.
علاوة على ذلك، من المتوقع أن تنمو الإيرادات من أشباه الموصلات الخاصة بمراكز البيانات بنسبة 12% سنوياً حتى عام 2030. ويتوسع في اليابان عدد من أكبر شركات خدمة مراكز البيانات في العالم مثل "كيه دي دي آي كورب" (KDDI Corp) المحلية العملاقة و"أمازون ويب سيرفيسيز" بالولايات المتحدة.
كذلك، أنشأت "رابيدوس" منفذاً متقدماً للمبيعات في منطقة وادي السيليكون في وقت سابق من هذا العام، وقد جعل ضعف قيمة الين ممارسة الأعمال في اليابان أكثر جاذبية للعملاء المحتملين.
ومع ذلك، ستحتاج الشركة الناشئة إلى امتلاك القدرة على الإنتاج الكبير للرقائق المتطورة التي تعد بها، وهو إنجاز كبير في حد ذاته. ولكنها تتعاون مع شركة "آي بي إم"، التي كانت أول شركة في العالم تطور تقنية أشباه الموصلات 2 نانومتر. كما أنها تحصل على دعم في مجال البحث والتطوير من مركز الإلكترونيات الدقيقة المشترك بين الجامعات في بلجيكا (Interuniversity Microelectronics Centre).
لعل أكبر عقبة متوقعة أمام شركة "رابيدوس" هي نقص المواهب في اليابان الذي حدث مع انتقال صناعة الرقائق إلى خارج البلاد. ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المشكلة بسبب تقلص حجم القوى العاملة بوجه عام. وتشير بعض التقديرات الحكومية إلى أن النقص في عدد مهندسي أشباه الموصلات سيصل إلى 40 ألف مهندس خلال العقد القادم. وينبغي على صناع السياسات المساعدة من خلال جذب العمال الأجانب إلى هذا القطاع، وتبسيط عملية التأشيرات والهجرة لهذه المواهب الهامة.
تتعاون شركة "رابيدوس" حالياً مع معاهد التعليم العالي مثل جامعة هوكايدو في مجال التدريب. ولكن يجب على الحكومة توسيع نطاق هذه الجهود للبدء في توظيف الطلاب الأصغر سناً، وتشجيع المدارس الثانوية على تضمين دروس حول أهمية صناعة وتطوير الرقائق محلياً لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
يظهر الشعب الياباني ميلاً إلى التكاتف في أوقات الأزمات. وإذا أمكن جذب الطلاب إلى وظائف في هذه الصناعة عبر إدراك تلك المصالح الكبيرة، فقد يساعد ذلك في توفير مزيد من العمال المهرة على المدى الطويل.
كما أنها تعوّض النقص في عدد العاملين في منظومة أشباه الموصلات لديها بمجموعة من العوامل الهامة الأخرى. فالشركات اليابانية تسيطر على حصة سوقية كبيرة في العديد من المواد اللازمة لإنتاج الرقائق – وهو عامل آخر يعطيها ميزة مقارنة بجهود التصنيع المحلي في أوروبا أو الولايات المتحدة.
تمكنت تايوان، الرائدة في هذه الصناعة على مستوى العالم في الوقت الحالي، من تحقيق ذلك عبر عقود من التعاون بين الحكومة والشركات والمؤسسات البحثية والجامعات. ومن خلال هذا التعاون أتقنت تلك المؤسسات معاً المعرفة التكنولوجية ونشرتها في مختلف حلقات سلسلة التوريد. وعلى اليابان أن تتعلم من نجاح جارتها.
إن الجهود التي تبذلها شركة "رابيدوس" نوع من استهداف المستحيل، ولكن كون الهدف يبدو صعباً للغاية لا يعني أنه لا يستحق المحاولة، ومن خلال الطموح، فإنه يضمن على الأقل ألا تتخلف اليابان عن الركب.
بالنسبة لهذه الشركة الناشئة الشابة، حتى القدرة على المنافسة عالمياً مع اللاعبين الكبار في السباق العالمي يعد فوزاً.