توقعات الدولار/الين بين السياسة النقدية الأمريكية والتقلبات اليابانية

  • بقلم : رانيا جول

    كبير محللي الأسواق في XS.com- منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)

     

    في تداولات آسيوية هادئة نسبيًا، يتداول زوج الدولار/الين بالقرب من 147.95 بعد أن تراجع إلى مستوى 147.60، وهو انخفاض لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان انعكاسًا للتقاطع بين مسارين متناقضين للسياسة النقدية في كل من الولايات المتحدة واليابان. فمن ناحية، اختار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بقيادة جيروم باول، إرسال إشارات واضحة بأن التباطؤ في سوق العمل أصبح أولوية أهم من استمرار التضخم، وهو ما ترجم إلى خفض سعر الفائدة الأسبوع الماضي قبل أن يعود بالأمس ويشير الى أنه قد لاتكون هناك خفوضات للفائدة خلال 2025 مرة أخرى وأن الفيدرالي سيعتمد على البيانات لتحديد مسار السياسة النقدية في كل اجتماع على حدة. ومن ناحية أخرى، يقف بنك اليابان على أعتاب قرارات قد تحمل تغييرات في توجهه التقليدي شديد التيسير، لكن ضبابية المشهد السياسي في طوكيو تحدّ من أثر تلك التوقعات في دعم الين. وهذه المفارقة تفسر حالة التذبذب الواضح في حركة الزوج خلال الساعات الأخيرة.

    وفي رأيي، ما نشهده اليوم ليس مجرد تحرك قصير الأجل في نطاق ضيق، بل هو بداية لتوازن جديد في سوق العملات قد يستمر لأسابيع. فمسار الدولار لا يعود فقط إلى خفض الفائدة، بل أيضًا إلى تراجع مؤشرات الأعمال الأمريكية بشكل متزامن. والأرقام الأخيرة لمؤشرات مديري المشتريات تشير إلى تراجع النشاط الاقتصادي، سواء في قطاع التصنيع أو الخدمات، وهو ما يقلل من جاذبية الدولار كملاذ استثماري قصير الأجل. والمستثمرون أصبحوا أكثر قلقًا من أن دورة الهبوط الاقتصادي قد سبقت خطوات الفيدرالي، مما يعني أن الضبابية باتت تخيم على توقعات التيسير النقدي وهو ما يتسبب بتقلبات خطيرة.

    مع ذلك، لا يمكنني تجاهل أن الدولار ما زال يتمتع بميزة القوة النسبية مقارنة بعملات أخرى، لاسيما في ظل استمرار حالة التذبذب في الاقتصاد العالمي. فمؤشر الدولار الأمريكي، رغم تراجعه الطفيف، لا يزال يحوم بالقرب من مستويات داعمة فوق 97، وهو ما يعكس أن الأسواق لم تتخلَّ بعد عن ثقتها الكاملة في العملة الأمريكية. وبرأيي، أي هبوط إضافي في زوج الدولار/ين قد يواجه مستويات دعم قوية قبل مستوى 146.50، خصوصًا إذا جاءت بيانات مبيعات المنازل الجديدة بأفضل من التوقعات، بما يعيد بعض التوازن إلى الصورة الاقتصادية الأمريكية.

    أما على الجانب الياباني، فإن الصورة تبدو أكثر تعقيدًا. صحيح أن التوقعات برفع بنك اليابان لسعر الفائدة في أكتوبر تتزايد، لكن من الصعب البناء على هذه التقديرات وحدها. فالاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا فتحت بابًا لمرحلة سياسية غير مستقرة، والانتخابات الداخلية للحزب الليبرالي الديمقراطي في 4 أكتوبر قد تعيد خلط الأوراق تمامًا. ومن وجهة نظري عند قراءة تأثير السياسة على الأسواق، غالبًا ما يكون الين سريع التأثر بالاضطرابات السياسية الداخلية، خاصة إذا ارتبطت بمخاوف حول مدى استقلالية أو حزم البنك المركزي. لذلك، أرى أن أي قوة يحققها الين نتيجة توقعات رفع الفائدة قد تتآكل سريعًا إذا فاز مرشح ذو توجهات حمائمية بالقيادة السياسية.

    والأمر المثير للاهتمام هنا هو أن الأسواق بدأت تقيّم الاحتمالات بشكل مزدوج: فمن ناحية، تتوقع تيسير إضافي من الفيدرالي بنسبة تصل إلى 90% في أكتوبر، ومن ناحية أخرى، تسعّر احتمال رفع بنك اليابان للفائدة بنسبة تفوق 50%. وهذه الفجوة في التوجهات تضع زوج الدولار/ين في منطقة حساسة للغاية، حيث قد يتحرك بعنف إذا تحققت إحدى هاتين الفرضيتين على نحو أوضح. لذا، أرى أن المسار الأقرب هو استمرار الضعف النسبي للدولار مقابل الين، لكن ليس بالحدة التي يتوقعها بعض المستثمرين. وأي اختراق واضح لمستوى 147 نحو الأسفل سيحتاج إلى صدمة سلبية جديدة من البيانات الأمريكية أو تحول أكثر تشددًا في خطاب بنك اليابان.

    كما أن ملاحظة حركة السوق خلال عطلة الاعتدال الخريفي في اليابان تلفت النظر. ضعف أحجام التداول في الجلسة الآسيوية فتح المجال لتذبذبات أكثر حدة في الفترة الأوروبية والأمريكية، مدفوعة بالتصريحات الحذرة من مسؤولي الفيدرالي مثل أوستن غولسبي. وفي رأيي، هذه المرحلة الانتقالية من "ترقب البيانات" ستبقى سمة أساسية للأسواق خلال الأسبوعين المقبلين. والمستثمرون الآن ليسوا بصدد بناء اتجاه طويل الأجل، بل يبحثون عن فرص قصيرة في ظل غياب اتجاه واضح، وهو ما يزيد من حساسية الزوج لأي أخبار مفاجئة.

    وعلى المدى المتوسط، أعتقد أن سيناريو "التقارب التدريجي" بين سياسات الفيدرالي وبنك اليابان سيظل العامل الحاسم. فإذا مضى الفيدرالي في دورة تخفيضات تدريجية للفائدة، وفي المقابل تحرك بنك اليابان خطوة واحدة فقط نحو رفعها، فإننا قد نشهد تحولًا في ميزان القوى لمصلحة الين، ولو بشكل محدود. لكن يبقى العامل السياسي في اليابان عنصرًا لا يمكن تجاهله، إذ قد يؤجل أي نية للتشديد النقدي إذا رأت القيادة الجديدة أن النمو الاقتصادي لا يحتمل رفع الفائدة حاليًا.

    وفي النهاية، أرى أن زوج الدولار/ين يقف اليوم عند مفترق طرق استراتيجي. التحركات الحالية حول 147.50 ليست مجرد تقلبات لحظية، بل تعكس إعادة تسعير واسعة لاحتمالات السياسة النقدية في أكبر اقتصادين في العالم. وتوقعي أن يبقى الزوج ضمن نطاق 146.50 إلى 149.00 في الأسابيع المقبلة، مع ميل هبوطي مشروط بضعف البيانات الأمريكية وتماسك الوضع السياسي الياباني. أما إذا جاءت انتخابات الحزب الليبرالي الديمقراطي بنتائج مفاجئة، فقد نجد أنفسنا أمام حركة أكثر اتساعًا نحو مستويات 145، وهو سيناريو لا أستبعده لكنه يتطلب توافقًا نادرًا بين السياسة والاقتصاد. ومن خبرتي، فإن الأسواق نادرًا ما تمنح مثل هذا التوافق، لكنها تعاقب بقسوة من يتجاهل احتمالاته.

    حمّل تطبيق Alamrakamy| عالم رقمي الآن