وجهه نظر
بقلم أيمن صلاح
مرت مصر خلال تاريخها الحديث بالعديد من المحن والمواقف الفارقة التى استلزمت فى العديد منها اتخاذ قرارات سياسية ربما تكون قد أثرت بعنف سلبا أو ايجابا فى مستقبل الأمة بأسرها وفى مصير شعب بأكمله، ولعل الفترة فيما بعد ثورة يوليو 1952 حتى وقتنا هذا هى الفترة الأكثر ديناميكية فى تاريخ مصر الحديث مقارنة بما قبل ذلك من فترات، فأحداث ما بعد ثورة يولية 1952 زاخرة بالمواقف والأحداث الفاصلة التى كان لها أكبر الأثر فى تغيير وجه مصر الذى كانت عليه قبل الثورة، وعند استعراض بعض الأحداث فى تاريخ مصر الحديث سنجد العديد من القرارات السياسية الخاطئة التى أتت على الأخضر واليابس فى البلاد رغم تعدد المسارات التى كان يمكن الاختيار من بينها فى تلك اللقطات الزمنية المتعددة والفارقة بحيث نتجنب الكثير من المعاناة للبلاد والعباد لو تم اختيار المسار الأصلح الذى يجنبنا الشرور والمحن، فدعونى أستعرض بعض الأخطاء السياسية التى وقعت فيها القيادات السياسية المتعاقبة على حكم مصر منذ الثورة وحتى الآن مع بيان المسارات البديلة على نحو تخيلى لاستبيان أثرها والعائد النفعى من المضى فيها.
مع بداية ثورة يوليو وظهور مجلس قيادة الثورة الذى كان على رأسه الرئيس الراحل / جمال عبد الناصر ورفاقه من ضباط مجلس قيادة الثورة (الضباط الأحرار) بعد تنحية أول رئيس لمصر وهو الراحل / محمد نجيب وكان ذلك خطأ استراتيجيا فى حد ذاته، تبنى مجلس قيادة الثورة تنفيذ الست مبادىء التى قامت من اجلها الثورة وهى: القضاء على الاقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، اقامة جيش وطنى قوى، اقامة عدالة اجتماعية، وآخرها هو اقامة حياة ديمقراطية سليمة. ولأمانة الطرح فان مجلس قيادة الثورة قد نجح الى حد بعيد فى تحويل تلك المبادىء الى واقع فعلى عاشه المواطن المصرى فى تلك الحقبة من الزمن الا مبدأ واحد تراجع عنه مجلس قيادة الثورة فكان كمن نكث بعهده وهو اقامة حياة ديمقراطية سليمة حيث تحولوا عن هذا المبدأ وقرروا حكم البلاد حكما عسكريا خالصا كان له أبلغ الأثر فى انتشار القمع وظهور مراكز القوى وتنامى الاعتقالات والظلم وتردى الأوضاع السياسية فى البلاد الأمر الذى أدى الى العديد من الأزمات السياسية، ولو تخيلنا أن مجلس قيادة الثورة قد أوفى بعهده فى ذلك الوقت وشرع فى بناء حياة ديمقراطية سليمة وتنحى عن قيادة البلاد وترك الحكم لقيادة مدنية منتخبة من خلال انتخابات رئاسية نزيهة مع بناء المؤسسات الوطنية بأسلوب دستورى وديمقراطى حقيقى فأظن أننا كنا تجنبنا العديد من الثقافات الشعبية المستحدثة على الشعب المصرى من تأليه القيادات ونمو الفساد وانتشار الجهل ولكنا أفضل حالا اليوم مهما واجهنا من عراقيل ومصاعب تسببها الديمقراطية التى ربما لا تكون الحل أو الطريق الوحيد لرفاهية الشعوب ولكن نتائجها ولا شك ستكون أفضل حالا مما عانته الأمة فى تلك الفترة ولازالت آثارها السلبية تداهمنا حتى وقتنا هذا.
ثم نأتى لمسار سياسى خاطىء آخر حينما قرر الرئيس الراحل / جمال عبد الناصر الدخول فى الحرب الأهلية اليمنية التى قامت بالأساس كثورة ضد المملكة المتوكلية اليمنية فى سبتمبر من عام 1962 ثم تحولت الى حرب أهلية بين مناصرى تلك المملكة وأولئك الموالين لاقامة جمهورية يمنية حديثة، ولم يكن اقحام عبد الناصر لجيش مصر فى ذلك الآتون الدامى بما يقرب من سبعين الفا من جنود وضباط الجيش المصرى الا لأيديلوجية أعتنق مبادئها عبد الناصر وعاش بها ولها وهى مناصرة ودعم كل الحركات الثورية والتحررية فى العالم، فما كان من هذا القرار والمسار السياسى الخاطىء الا جلب الخسائر البشرية والمعنوية للجيش دون أدنى عائد يذكر، ناهيك عما هو أهم وأعظم من انهاك لقدرات الجيش المصرى طيلة سنوات الحرب اليمنية مما كان له عظيم الأثر السلبى حين مواجهته للجيش الاسرائيلي فى يونيو من عام 1967 الأمر الذى أدى الى هزيمة ساحقة أطلقنا نحن عليها "نكسة 67" للتخفيف من وطأة الهزيمة التى عانينا منها سنوات طويلة سياسيا واقتصاديا وعسكريا من اجل الانتصار فى حرب جديدة واسترداد كامل الحقوق بعد معاناة طويلة من المفاوضات ثم التحكيم الدولى وهو ما خلف معاناة اقتصادية كبيرة لمصر عبر عقود طويلة أثرها قائم حتى الآن.
ثم يمر بنا الزمن قليلا حيث عهد تولى الرئيس الراحل / محمد أنور السادات مقاليد الحكم بمصر وهى فترة أعتبرها من وجهة نظرى من أزهى عصور الحكم فى مصر نظرا لما تمتع به هذا الرجل من بصيرة نافذة ورؤية ثاقبة فكان رجلا سياسيا من الطراز الأول أستطاع بحكمته وشجاعته خوض حرب ضروس ضد العدو الصهيونى استطاع من خلالها استرداد كرامة وشرف مصر قبل استرداد أرضها، ثم استطاع بعد ذلك بحنكته وذكائه استرداد كامل الأرض المصرية المحتلة من خلال المفاوضات مع اسرائيل وحسن التعامل مع الادارة الأمريكية آنذاك، بيد أن ذلك كله لا يمكن أن يشفع للسادات خطأين استراتيجيين وقع فيهما أثناء حكمه كان لهما كبير الأثر السلبى على مصر بعد ذلك بعقود حيث كان أولاهما تراجعه عن قرار رفع الدعم الجزئى عن بعض السلع بعدما قامت المظاهرات احتجاجا على قرار رفع الدعم الذى كانت آثاره فى ذلك الحين كبداية لخطة ممنهجة لرفع تكلفة الدعم عن كاهل الدولة أخف وطأة بكثير عما هو عليه الشعب المصرى اليوم الذى يعانى معاناة شديدة نتيجة لخطط رفع الدعم عن المحروقات والطاقة والسلع الاستراتيجية وهو الأمر الذى أصبح لابد منه حتى تتجنب الدولة مخاطر اقتصادية هائلة لا قبل لمصر بها، أما ثانى المسارات الخاطئة للرئيس / السادات فقد كان قراره بعودة الاخوان المسلمين الى المشهد السياسى واخراجهم من السجون ومنحهم الفرصة للعمل سياسيا بين جموع الشعب ونشر فكرهم المتشدد فى المجتمع اعتقادا منه بأن ذلك سوف يحدث نوعا من التوازن السياسى بعدما ناصبه الاشتراكيون والناصريون العداء، تلك الفئة من المجتمع السياسى التى اختفت فيما بعد بالقصور الذاتى بعدما انتهت كل الحركات الاشتراكية فى العالم وسادت الرأسمالية خاصة مع سقوط الاتحاد السوفييتى وتفتته الى مجموعة من الدول المستقلة، قرار الرئيس / السادات كان أحد المسارات القاتلة حيث انتشر وباء الاخوان فى المجتمع المصرى متخذين الدين ستارا لأغراضهم وأهدافهم الدنيئة كما ينتشر السرطان فى دم الانسان حتى وصل بنا الحال الى ما نحن عليه اليوم من ارهاب وقتل وتآمر مع جماعات ودول أجنبية .... أمر كانت مصر فى غنى عنه.
أما فيما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 فلا تسل عن عديد المسارات الخاطئة التى خضنا فيها لولا ثورة الثلاثين من يونيو 2013 التى أعتبرها أعظم ثورة فى تاريخ البشرية كونها ثورة شعب بأكمله لا فئة دون أخرى، تلك الثورة التى صححت المسار وجعلتنا لأول مرة فى تاريخ مصر نخوض المسار الأصلح والأصح لرفعة هذه الأمة رغم بعض الأخطاء والصغائر التى لا يمكن لنا أن ننكرها أو نتجاهلها. أما عظيم الأخطاء التى وقعنا فيها عقب ثورة يناير مباشرة فهو ذلك الخطأ المتكرر الذى وقع فيه السادات بأن سمح المجلس العسكرى الذى كان يحكم البلاد فى ذلك الوقت للاخوان المسلمين سمح لهم مرة أخرى بالممارسة السياسية والتى استطاعوا بعدها بأساليبهم الخبيثة والارهابية الوصول الى حكم مصر لمدة عام كامل تحملت فيه مصر الكثير من المصاعب وواجهت الكثير من المخاطر ما بين ارهاب الاخوان للشعب والاستقطاب الشديد ومحاولات طمس الهوية المصرية وبث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد والانفراد بالسلطة واستبعاد كل القوى السياسية الوطنية وتهديد ووعيد الأقباط المصريين، ولقد كان أحرى بالمجلس العسكرى فى ذلك الوقت القضاء على كل ما هو اخوانى حفاظا على مصر وشعبها رغم علمى الكامل ويقينى الذى لا يقبل الشك مدى المخاطر التى كانت تواجه مصر جراء مسار كهذا الا أن عواقبه المدروسة والمحسوبة كانت بلا شك أفضل كثيرا من العواقب الوخيمة التى نعيشها جراء دخول هذا المرض السرطانى الى جسد هذه الأمة.
وربما يسأل سائل "لقد كان لكل عهد رئاسى فى تاريخ مصر الحديث أخطاءه فلماذا لم يذكر اسم مبارك فى هذا المهرجان الكارثى للأخطاء!!!" وفى الواقع، ردى من وجهة نظرى الشخصية هو أن وجود مبارك على رأس الحكم فى مصر فى حد ذاته هو من أكبر المسارات الخاطئة التى عانت منها مصر طوال ثلاثين عاما هى فترة حكم مبارك، بل أستطيع القول أنه لم يكن هناك قرارات مؤثرة أو مسارات استرتيجية تم اختيارها فى هذا العهد حيث تميزت فترة حكم مبارك بالجمود والسكون والرتابة وعدم مجاراة التطور والتقدم العالميين، تلك الحالة التى تعتبر البيئة الخصبة لنمو الفساد، وهو كذلك بالفعل فقد ترعرع الفساد فى عهد مبارك فى ظل حالة من الجمود والسكون السياسى والاقتصادى ليصل الى ذروته فى مصر سواء على مستوى القمة السياسية أو حتى مستوى القاعدة الشعبية.
عديد من المسارات المتاحة وكثير من الخيارات الخاطئة على مدار تاريخ مصر الحديث جعلت البلاد ترزح تحت نير الاحتلال والفساد والمعاناة وقسوة العوز والارهاب وعدم الاستقرار وضعف الأمن.
فاللهم اكتب لهذا البلد المستقبل الزاهر والقرار السياسى السليم وصحيح المسارات فيما هو قادم وآت لما فيه خير البلاد والعباد.