قوى فكرية تستفز العمق الأنثروبولوجي للمجتمع وتلعب دورا متطرفا للدفاع عن النقاء الثقافي وتحارب التنوع
هوية التمثال فتحت أبواب النقاش حول حكايات ضاربة في أعماق التاريخ لدول شمال افريقيا
كتب : محمد الخولي – نهله مقلد
لم تكد مدينة تيزي أوزو الواقعة على بعد 100 كيلومتر شرقي العاصمة الجزائر تعلن عن إقامة تمثال كبير للفرعون المصري من أصل أمازيغي شيشنق الأول، حتى قامت انتفاضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أسفرت عن جدل واسع في منطقة شمال أفريقيا عن هوية وأصل هذا الفرعون.
وأقام أمازيغ الجزائر التمثال المثير للجدل بمناسبة السنة الامازيغية الجديدة 2971 التي يحتفل بها الأمازيغ في دول المغرب أيام 11 و12 و13 من يناير من كل عام.
وعرفت مصر في القرن العاشر قبل الميلاد تحولا سياسيا أنهى اعتلاء المصريين لعرش النيل إثر الوهن الذي أصاب الأسرة 21 وأنهى حكمها، ما أدى إلى اعتلاء العرش من قبل أسرة أجنبية قادمة من خارج مصر.
واعتبر ظهور الأسرة 22 حدثا لافتا ليس على مستوى مصر فحسب، بل على مستوى منطقة الدلتا وشرق المتوسط وحتى أقصى شمال أفريقيا، بسبب جذور أسرة شيشنق الأول والخلاف حول جذورها إن كانت أسرة ليبية أم جزائرية أم تونسية، أم هي أسرة مصرية فحسب.
وأثار التمثال الذي ظهر في الجزائر سجالا بين نشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي في كل من مصر وليبيا والجزائر وتونس، حيث زعم كل فريق أن شيشنق يتبع منطقته الجغرافية.
واعتبر نشطاء أن التكريم الجزائري للملك شيشنق، هو كونه أمازيغي قدمت أسرته من الجزائر إلى مصر، وهو فخر لكل أمازيغي في الجزائر، ويجب استذكاره في بداية كل عام بالتقويم الأمازيغي.
وثائق تاريخية
وهو ما زعمه أيضا نشطاء من تونس ، أكدوا أن شيشنق تونسي الأصل، بناء على وثائق تاريخية تؤكد قدوم أسرته من تونس، الطرح الذي انقض عليه نشطاء ليبيون نفوا نسبة أسرة شيشنق لغير ليبيا.
وينتسب شيشنق لقبائل المشواش، وهي كلمة مصرية أطلقت على إحدى القبائل الليبية القديمة التي سكنت غرب مصر قبل الميلاد، ويختصر الاسم في كثير من الأحيان في المنحوتات المصرية القديمة بلفظ (مي).
ووفقا لمراجع مصرية فإن أصولهم ترجع إلى إحدى القبائل الساحلية في ليبيا الحالية ويطلق على المشواش مازيكس أو ماسيكس نسبة إلى الـ"مازيغ".
وبدأ المشواش مع بداية الأسرة 18 المصرية يتجمعون حول حدود مصر الغربية طلبا للإقامة في دلتا وادي النيل، وارتادوا أطراف منطقة الدلتا بحشود عسكرية بحثا عن محل لإقامتهم، ما مثل تهديدا لحدود مصر الغربية، انتهى بمطاردتهم بل وأسر مجموعات منهم انتهى بهم الحال عمالا وجنودا في "مملكة مصر".
ويعتبر شيشنق من الجيل الخامس لتلك الأسر، مما يعني أنه مصري رغم أصوله الأمازيغية، الأمر الذي يجعل تنصيبه على عرش مصر مشروعا ومقبولا، استحقه عن جدارة بعد عمله على إعادة توحيد البلاد واستعادة أراضيها المفقودة.
صعوبة تحديد الجنسية
وحسب متابعون للسجال الحاصل حول جنسية الفرعون الأمازيغي شيشنق، فإن من الصعوبة تحديده بجنسية وجغرافيا معينة في ذلك الوقت، كون المنطقة الجغرافية التي قدم منها شيشنق، وهي موطن الأمازيغ المعروف بليبيا قديما كانت حدوده تشمل جميع دول المغرب اليوم، وكون شيشنق من أسر ومجتمع واسع الانتشار في ذلك النطاق الذي كان مسرحا للأمازيغ.
وحسب المؤرخين فإن المجال الجغرافي لموطن الأمازيغ الذي ينتمي له شيشنق يبدأ من واحات غرب مصر شرقا، وينتهي بسواحل الأطلسي غربا، وتحده الصحراء الكبرى جنوبا، مما يجعل من الصعوبة القول بتحديد جنسية وموطن محدد للقبائل التي سرحت في ذلك المجال الواسع حينها.
عشية الاحتفال برأس السنة الأمازيغية للعام الأمازيغي 2971 أو ما يعرف بـ"عيد يناير"، قررت ولاية تيزي وزو بالجزائر، تكريم الشخصية التاريخية "الملك شيشناق" من خلال نصب تمثال له بطول 4.4 متر، وسط المدينة.
من اصل بربري
وأثار هذا التمثال الذي صممه النحاتان الجزائريان حميد فردي وسمير سالمي على هيئة رجل فرعوني قوي البنية، جدلا كبيرا في مواقع التواصل الاجتماعي، وبمجرد انتشار صور التمثال فتحت أبواب النقاش حول حكايات ضاربة في أعماق التاريخ.
وقال إنجاز هذا التمثال احتاج 5 أشهر من العمل المتواصل، وهو مصنوع من مادة الإرزين، والفكرة مقترحة من طرف ولاية تيزي وزو التي كانت تريد تخليد ذكرى يناير لهذه السنة بحدث كبير في المدينة".
وأكد الفنان أنه عمل بمرافقة توجيهات المؤرخين الذين رافقوا العملية الفنية، التي تحكي جانبا من التاريخ الأمازيغي.
وعن الشخصية وتاريخها قال حميد: "شيشناق مصري من أصل بربري، وهذا الأمر لا خلاف عليه، وقد قدم لنا المؤرخون صورا للقناع الفرعوني الأصلي الذي كان يرتديه، وأنا فنان وأتمنى أن يحكم الناس على العمل من الناحية الفنية".
ويرى الناشط الثقافي الجزائري عزيز حمدي أن هذا الجدل متوقع نظرا لعدم وجود الكثير من الأبحاث التاريخية في أصل شيشناق، كما أن نصب التمثال جاء من دون تقديم توضيحات للرأي العام.
وقال حمدي هناك إجماع على أن شيشناق مصري ولديه أصول جزائرية، وهناك من يركز على هذه الزاوية لإثارة جدل عقيم".
وأوضح الناشط أن شيشناق "امتداد لتاريخ الأمازيغ، وسواء كانت حكايته أسطورة أو حقيقة فهو ميراث مهم"، وضرب الناشط الثقافي المثل بعشرات التماثيل المتواجدة في اليونان وعدة دول، التي تحكي جانبا من التاريخ المتوارث، سواء كان شفهيا أو حقيقيا
جدل تاريخي
ويفسر الباحث وأستاذ علم الاجتماع السياسي ناصر جابي، مثل هذه الأمواج من الجدل التي تطفو بين الحين والآخر، قائلا: "هناك قوى فكرية تستفز العمق الأنثروبولوجي للمجتمع، وهي تيارات لا تختلف عن الدور الذي يحاول أن يلعبه اليمين المتطرف في فرنسا، التي تدافع عن النقاء الثقافي وتحارب التنوع".
وأضاف جابي لا يوجد مجتمع متجانس مئة بالمئة، والتنوع عامل قوى للشعوب، وتمثال شيشناق يعكس التاريخ الواحد لدول شمال إفريقيا والتبادل الثقافي بينها، وخير دليل على ذلك وجود أمازيغيي سيوة في مصر الذين حافظوا على هويتهم رغم مرور الزمن".