بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يشهد سوق الذهب العالمي في الأيام الأخيرة تفاعلاً حادًا مع الأحداث السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة، لاسيما استمرار الإغلاق الحكومي الذي بدأ ينعكس بوضوح على ثقة المستثمرين في الاقتصاد الأمريكي. فقد تجاوز سعر الذهب حاجز 3,950 دولارًا للأونصة خلال ساعات التداول الأوروبية المبكرة اليوم الأربعاء، في خطوة تعبّر عن حالة قلق متزايدة في الأسواق، وعن عودة قوية للطلب على الأصول الآمنة في ظل تصاعد المخاطر وعدم اليقين. وأرى أن هذا الصعود ليس مجرد حركة تصحيحية، بل هو إشارة واضحة إلى أن الأسواق العالمية بدأت تسعّر بالفعل احتمالات ركود أو اضطراب مالي أوسع نطاقًا، إذا ما استمر الإغلاق الحكومي لفترة أطول.
والإغلاق الأمريكي الذي دخل أسبوعه السادس لم يعد مجرد حدث سياسي داخلي؛ بل أصبح عامل ضغط اقتصادي دولي يهدد استقرار الأسواق، إذ تتزايد المخاوف من تأثيراته على الإنفاق الحكومي، وعلى ثقة المستهلك الأمريكي، وبالتالي على النمو العالمي ككل. وتاريخيًا، كانت فترات الإغلاق الحكومي في واشنطن تُعتبر فرصًا لإعادة تقييم المخاطر، لكن هذه المرة يبدو أن طول المدة وحدّة الخلافات السياسية بين الحزبين حول الموازنة تدفع المستثمرين نحو اتخاذ مواقف دفاعية أكثر حدة، وفي مقدمتها التحوط بالذهب. ومن وجهة نظري، فإن هذا الاتجاه سيستمر طالما ظل الغموض يلف المشهد السياسي الأمريكي، خصوصًا إذا فشلت محاولات الكونغرس الجديدة في تمرير اتفاق مؤقت يضمن عودة مؤسسات الدولة إلى العمل.
ولكن على الرغم من هذا الارتفاع اللافت، لا يمكن تجاهل العقبات التي تواجه المعدن النفيس. فالذهب، كأصل لا يدرّ عائدًا، يتأثر سلبًا بارتفاع الدولار الأمريكي والعوائد الحقيقية على السندات، وهما عاملان يضغطان بقوة على اتجاهاته قصيرة الأجل. وقد رأينا بالفعل كيف أن ارتفاع الدولار وتراجع رهانات خفض الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي قد حدّا من قدرة الذهب على التمركز فوق مستويات 4,000 دولار. والمتداولون باتوا أقل اقتناعًا بأن الفيدرالي سيقدم على مزيد من التيسير النقدي هذا العام، خاصة بعد أن أشار جيروم باول بوضوح إلى أن أي خفض إضافي للفائدة "ليس أمرًا مفروغًا منه". ومن وجهة نظري، فإن هذه الرسالة تمثل نقطة تحول في السرد السائد في الأسواق، إذ تعني أن السياسة النقدية الأمريكية ستظل مشددة نسبيًا في المدى القريب، مما يضع سقفًا مؤقتًا أمام صعود الذهب.
ومع ذلك، فإن التوازن بين قوة الدولار ومخاوف الإغلاق يخلق بيئة معقدة وغير مستقرة، تجعل من الذهب ساحة تنافس بين القوى المتعارضة. فإذا استمر الإغلاق وتزايدت مؤشرات التباطؤ في الاقتصاد الأمريكي، فقد نرى تحوّلاً في توقعات الفائدة مجددًا، مما سيعيد الزخم الصعودي للمعدن الأصفر. وأتوقع شخصيًا أن بيانات الوظائف الأمريكية (ADP) ومؤشر ISM للخدمات ستكون حاسمة في تحديد اتجاه الذهب في المدى القصير. أي ضعف في هذه البيانات سيُفسَّر على أنه دليل إضافي على تباطؤ الاقتصاد، ما قد يجبر الاحتياطي الفيدرالي على التراجع عن موقفه المتشدد، وبالتالي دعم أسعار الذهب مجددًا.
أما على الصعيد الجيوسياسي، فإن الصورة لا تقل تعقيدًا. فالتوترات المستمرة بين الصين والولايات المتحدة، رغم بعض بوادر التهدئة في الرسوم الجمركية، لا تزال تلقي بظلالها على معنويات المستثمرين. وإعلان الصين عن رفع الرسوم على السلع الزراعية الأمريكية بالتزامن مع تخفيض واشنطن لبعض الرسوم الجمركية على الواردات الصينية يكشف عن لعبة موازين دقيقة، لكنها لا تلغي حالة عدم اليقين. وأرى أن هذه التطورات تزيد من إقبال المستثمرين على الذهب، ليس فقط كتحوط ضد المخاطر السياسية، بل أيضًا كأداة لحماية الثروة في ظل تقلّب أسعار العملات وتبدّل سياسات التجارة العالمية.
ورغم أن بعض المستثمرين يرون في ارتفاع الذهب الحالي فرصة لجني الأرباح، فإنني أعتقد أن الاتجاه العام سيبقى صاعدًا على المدى المتوسط. الأسباب متعددة: استمرار الإغلاق الحكومي، تراجع ثقة المستهلك الأمريكي، وتباطؤ الاقتصاد الصيني الذي أظهره انخفاض مؤشر مديري المشتريات الصناعي إلى 50.6 نقطة، وهو أدنى من التوقعات. وهذه المؤشرات مجتمعة تُضعف شهية المخاطرة عالميًا وتُعزز الطلب على الأصول الدفاعية. من هذا المنطلق، أرى أن أي تراجعات في أسعار الذهب خلال الأيام المقبلة ستكون تصحيحية ومؤقتة، وليست بداية لانعكاس هابط مستدام.
لذا أرى أن الحفاظ على مستوى الدعم عند 3,920 دولارًا للأونصة يعدّ إشارة إيجابية على بقاء الزخم الصعودي قائمًا، بينما يشكّل اختراق حاجز 3,980 دولارًا البوابة النفسية نحو مستوى 4,050 دولارًا الذي قد نراه قريبًا في حال استمرار حالة الشلل السياسي الأمريكي. ومع ذلك، يجب الحذر من تقلبات مفاجئة في الدولار أو في عوائد السندات، إذ قد تدفع عمليات جني الأرباح قصيرة المدى إلى بعض التراجعات المؤقتة.
وخلاصة القول، إن الذهب يعيش لحظة توازن دقيقة بين قوتين متناقضتين: من جهة، الإغلاق الحكومي الأمريكي والتوترات الجيوسياسية التي تعزز جاذبيته كملاذ آمن؛ ومن جهة أخرى، الدولار القوي والسياسة النقدية المتحفظة للفيدرالي التي تحد من اندفاعه. وبرأيي، ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي سريع في واشنطن، فإن الاتجاه الصاعد سيظل المسيطر على المدى المتوسط، مع احتمالات أن يتجاوز الذهب حاجز 4,100 دولار خلال الأسابيع المقبلة. في النهاية، يبقى الذهب – كما كان دائمًا – المرآة التي تعكس قلق العالم، والوجهة التي يقصدها المستثمرون عندما تغيب الرؤية وتتزايد الضبابية.








