مقال بقلم : توفيق محمود - خبير التكنولوجيا المالية
إن الكلمة مسئولية عظيمة الشأن، جليلة القدر، قد تُصلح أخلاقًا وتُفسدها، وتُضلل أقوامًا وتُصلحها، وتهدم بلدانًا وتبنيها...، والمُتأمِّل لحِكمة الخالق فى إرساله الرسل، يعلم يقينًا مقام الأمانة فى الحديث وشأن الصدق فى التبليغ، لذلك اصطفى من عباده الأطهار الأخيار، الذين هم أكثر الناس أمانةً وأصدقهم حديثًا.
ولقد شاء لى القدر أن أُسافر إلى العديد من بلاد العالم المُتباعدة الأقطار، وأن أتنقَّل بين مدنها فى رحلات عملٍ كثيرة، ورغم أن معظمنا ربما تكون أمنيته الأولى زيارة تلك البلدان، وأكبر أحلامه وأضخمها الاستقرار فيها؛ حيث يراها -من وجهة نظره- جنة الله فى أرضه، وواحته الغنَّاء على كوكبه، إلا أننى فى كل رحلة إلى واحدةٍ منها، كنت أحسب الساعات التى أعود فيها لأحضان وطنى، وهو شعورٌ لو تعلمون عظيم، قلّما تستشعره لأى مكانٍ سوى لمصر التى يراها العالم كبيرة ويتحدَّث عنها سُكانه بفخرٍ، وكم يحزننى أن يتجاهل قدْرها بعض أبنائها أو يذكرونها بالسوء.
لا نبالغ مطلقًا فى ترديدنا على الدوام بأن مصر صاحبة حضارة هى الأقدم على الإطلاق، والمهتمون بدراسة تاريخ البلدان يعرفون ذلك جيدًا، كما أن المتابع لِما انتهت إليه مصرنا اليوم فى مسيرتها العطرة بين الأمم، يلحظ أنها قد بدأت خلال العشرية الأخيرة مشوارها مُسرعةً نحو مواكبة التقدُّم والتطوُّر واستقلال قطار الحداثة الحاصل من حولنا دون نزولٍ أو ركونٍ، لكن يُؤلمها - كما يُؤلمنا - وجود قلَّة قليلة من الأشخاص ينظرون أسفل أقدامهم؛ إعلاءً لمصالحهم الضيِّقة على مصالح بلدهم، فيبخثونها حقها حتى صاروا جزءًا من حملات ممنهجة، يُردِّدون ما يُقال لهم دون إعمال عقولهم ليتبيَّنوا الخطأ من الصواب، أو يُقدِّروا الغثَّ من الثمين.
وبمطالعة أحوال هؤلاء عن قُربٍ؛ من خلال المُحيطين بهم، أو مَنْ يُجاورهم أو يُخالطهم فى المسكن أو البلدة المقيمين فيها، تعرف أن غالبيتهم يجلسون جُلَّ أوقاتهم على المقاهى والكافيهات، ثم يقضون ما تبقى منها فى الشوارع والدروب، وهم يُصارعون ليل نهار هواتفهم؛ للهجوم على مصر التى أطعمتهم من جوعٍ وأمنتهم من خوفٍ، ومنحتهم الظلَّ والدفء والعيش والسير فى مناكبها بأمان، ولكنهم ما إن بلغوا الرُّشدَ لم يسعوا لإصلاح أنفسهم أكثر، بل راحوا يُلقون باللوم عليها لأنها لم تُعطهم فى أيديهم، فى مخالفة صريحة لمنطق الأشياء، فأى دولة فى العالم تلك التى تُنفق على من اختاروا القعود والركون عن الكدِّ والسعى، وأى مساعدة تكون لمن يُهدر طاقته ويُذهبها بلا فائدة؟!!!
وهنا يحضرنى التساؤل الذى يدور فى خلدى دائمًا وأبدًا، لماذا يتجاهل هؤلاء طريق العمل؟ أليس السعى مطلوبًا والعمل عبادةً شرعًا ودينًا وخُلقًا؟.. نعم، إنه السبيل الوحيد الذى يُغنيهم عن التسوُّل والعوز، والانشغال بأحوالهم والاهتمام بأنفسهم ومستقبلهم، والحفاظ على ما تُوفّره لهم الدولة المصرية من بيئة آمنة مستقرة للاجتهاد فى الرزق وتحقيق الأحلام والطموحات، ألا يدرك هؤلاء لذة الاستمتاع بعمل أيديهم وحلاوة ما تتكسَّبه من طعامٍ وشرابٍ تغذَّى بجهدهم وارتوى بعرقهم وأثمر يانعًا نافعًا لأسرهم وذويهم حلالًا طيبًا؟
إن دور الدولة يا سادة ليس إعطاء كل شخصٍ حِفنة من الأموال فى يده ليأكل ويشرب وينام، وإنما هو تأهيل بيئة عمل مناسبة، تُتيح لكل مواطن يعيش على أرضها أن يستغل إمكانياته وقدراته فى عمل مشروعه الخاص، مُستفيدًا من بنيتها التحتية ومنشآتها الجديدة ومشروعاتها التى توسَّعت فيها مؤخرًا، ويرى المتأمل فى طول البلاد وعرضها خلال السنوات العشر الماضية، كم من تغييرٍ لمسناه بأم أعيننا فى مجالات الحياة كافة، حتى أصبحنا أمام بيئةٍ مُحفّزة ومُشجّعة لأصحاب الأفكار والأموال والمستثمرين من الداخل والخارج، وتوديعها لسلسال المسكنات الذى أنهكها عقودًا، لتسلك طريق بناء جمهورية جديدة تُمكّنها من المنافسة وسط الكبار من القوى الإقليمية والعالمية.
حرىٌّ بكل مصرى أن يتسلَّح بالوعى ونحن على أعتاب مرحلة فارقة فى تاريخ الإقليم وربما العالم، فالمخاطر حول مصر لا حد لها، والمؤامرات التى تُحاك ضدها لم تعد خافيةً على أحد، وتُجهَّز فى أعتى أجهزة المخابرات العالمية، لذا فمن الضرورى أن نكون عونًا لها ولقادتها فى هذا الظرف الدقيق، بدلًا من أن نكون خنجرًا مسمومًا غادرًا يطعن فى ظهرها، ولنعلم أن الله أنعم علينا بوطنٍ يحسدنا عليه المشردون واللاجئون ومَنْ لا وطن لهم، فوجب الحفاظ عليه بكل ما أُوتينا من قوة، وتجنيب وبتر وقطع دابر الحاقدين علينا من بيننا، فالأوطان غالية، والأرض عِرض لا يُمكن تعويضه أو استرداده إن سُلب.
لا يفوتنى أن أهمس فى أذن أولئك المُتصدرين للمشهد لا سيما على وسائل الإعلام الجديدة، بأن الظهور وتوجيه رسالة إعلامية لهو مسئولية والكلمة أمانة، فاحذر من الخوض فى أمور لست بها عليمًا وعن خباياها ما دمت بعيدًا، فيوميًا أُشاهد أُناسًا يطلون علينا عبر الشاشات يبثون السُّمَ فى العسل ويدلون بدلوهم دون تخصص أو دراية، والكثيرون ينصتون لهم ويتلقفون منهم المعلومات المضللة أحيانًا والمغلوطة أحايين كثيرة، وأمنيتى أن نترك الساحة للخبراء وهم فى بلادنا كُثَّر، الذين حباهم الله نور البصيرة وتفتّحت عقولهم بالعلوم، ليتحدّثوا بوعىٍ وينصحوا بأمانة، فحُب البلد يُعشّش فى قلوبهم، وضمائرهم تُحرّكهم عند كل أزمة مُفتعلة، وبوصلتهم هى مصلحة أم الدنيا لا شىء غيرها.